You dont have javascript enabled! Please enable it!
Switch Mode

أعزائنا القرّاء، يسرّنا إعلامكم بأن ملوك الروايات يوفر موقعًا مدفوعًا وخاليًا تمامًا من الإعلانات المزعجة، لتستمتعوا بتجربة قراءة مريحة وسلسة.

لزيارة الموقع، يُرجى النقر هنا.

هذا المحتوى ترفيهي فقط ولايمت لديننا بأي صلة. لا تجعلوا القراءة تلهيكم عن صلواتكم و واجباتكم.

سجلات قاتل الملك 4

في منتصف الطريق إلى "نُواَرْ"

في منتصف الطريق إلى "نُواَرْ"

في منتصف الطريق إلى “نُواَرْ”


كان المؤرّخ يمشي. البارحة كان يعرج، لكنّ اليوم لم يكن في قدميه موضع إلا و يؤلمه، ولهذا لم يعد هناك فائدة لملاحظة العرج في مَشْيه. بحث عن خيول في "آبوتس فورد " و "رانيش"، عارضًا أسعارًا فاحشة مقابل حتى أكثر الدواب وهنًا وتعبًا. لكن في بلدات صغيرة كهذه، لم يكن لدى الناس خيول أو دوابّ فائضة عن حاجتهم، لا سيّما مع اقتراب موسم الحصاد.

رغم مشيه طوال اليوم، بقي في الطريق حين حلّ الليل، فصارت الطريق الترابية المتشققة أرضًا تعجّ بأشكال شبه مرئية يتعثر فيها. وبعد ساعتين من التخبط في الظلام، لمح المؤرّخ ضوءًا يتلألأ من بين الأشجار من بعيد، فتخلى عن فكرة الوصول إلى نُواَر تلك الليلة، مقرّرًا أن ضيافة مزرعة قريبة ستكون كافية ومُرحّبًا بها.

غادر الطريق، متخبطًا بين الأشجار باتجاه الضوء. لكن النار كانت أبعد مما ظنّ، وأضخم. لم تكن ضوء مصباح من بيت، ولا شرارة من نار معسكر. بل كانت نارًا عظيمة تشتعل في خرائب بيت قديم، لم يبقَ منه سوى جدارين حجريّين متداعيَيْن. وكان متكوّرًا في زاوية الجدارين رجلٌ يرتدي عباءة ثقيلة ذات غطاء للرأس، متلفّحًا كأنّ الشتاء في أوجه، لا أنّها أمسية خريفية معتدلة. انتعشت آمال المؤرّخ حين رأى نارًا صغيرة للطبخ فوقها قدر معلّق. لكنه حين اقترب، شمّ رائحة نتنة امتزجت بدخان الخشب. كانت تفوح منها رائحة شعر محترق وزهور متعفنة. قرّر بسرعة أنّ أيّاً ما كان الرجل يطبخه في قدر الحديد، فهو لا يريد منه شيئًا. ومع ذلك، حتى مكان بجوار النار كان أفضل من أن يلتفّ على نفسه بجانب الطريق. خطا المؤرّخ داخل دائرة ضوء النار.

"لقد رأيت نـ..."

توقف فجأة حين قفز الرجل واقفًا بسرعة، ممسكًا سلاحًا بكلتا يديه. لم يكن سيفًا، بل هراوة طويلة داكنة، منتظمة الشكل أكثر من أن تكون قطعة حطب عادية.

تجمّد المؤرّخ في مكانه.

"كنت فقط أبحث عن مكان لأنام فيه،" قال بسرعة، ويده تمسك لا شعوريًا بالدائرة الحديدية المعلّقة حول عنقه. "لا أريد أي مشاكل. سأدعك لعشائك." ثم خطا خطوة إلى الوراء.

ارتخى الجسد، وأسقط الهراوة ليُصدر صوتًا معدنيًا خشنًا عند ارتطامه بالصخر. "بحق الجحيم، ما الذي تفعله هنا في مثل هذا الوقت من الليل؟"

"كنت متجهًا نحو نُوآر ورأيت نارك."

"هكذا ببساطة؟ رأيت نارًا غريبة في الغابة ليلاً، فتبعتها؟" هزّ الرجل المقنّع رأسه ثم أشار للمؤرّخ أن يقترب: "تعال إلى هنا إذًا." لاحظ المؤرّخ أنه كان يرتدي قفّازات جلدية سميكة.

"يا إلهي، هل كنت منحوسًا طوال حياتك، أم ادّخرت كلّ نحسك لهذه الليلة فقط؟"

قال المؤرّخ، متراجعًا خطوة إلى الخلف: "لا أعرف من الذي تنتظره، لكنني واثق أنّك تفضّل أن تقوم بذلك وحدك."

"اصمت واستمع." قالها الرجل بحدّة. "لا أعرف كم من الوقت لدينا." ثم نظر إلى الأسفل، وفرك وجهه بيده. "يا إلهي، لا أعلم أبدًا كيف ينبغي أن أخبركم أيها الناس. إن لم تصدّقني، ستظنني مجنونًا. وإن صدّقتني، ستذعر وتصبح أسوأ من عديم النفع." ،رفع بصره مجددًا، فرأى "المؤرّخ" ما يزال في مكانه. "اقترب، اللعنة عليك. إن خرجت من هنا، فأنت ميت لا محالة."

نظر المؤرّخ خلفه نحو ظلمة الغابة وسأل: "لماذا؟ ما الذي هناك؟"

ضحك الرجل ضحكة قصيرة ومريرة، ثم هزّ رأسه بتأفف و يأس : "بصدق؟" ،مرر يده في شعره بلا تفكير، ما كشف عن لون شعره في وهج النار — كان أحمر بشكل مستحيل، وعيناه بلون أخضر نابض حيّ بشكل صادم. تأمّله برهة وكأنه يقوّمه بعينيه، ثم قال: "شياطين. شياطين على هيئة عناكب سوداء ضخمة."

استرخى المؤرّخ، وقال بنبرة واضحة تدل على تكرارها لمرات كثيرة: "لا وجود للشياطين."

قهقه الرجل ذو الشعر الأحمر بدهشة وقال بسخرية: "حسنٌ، إذاً يمكننا جميعًا العودة إلى بيوتنا!" ، ثم ابتسم ابتسامة مجنونة وهو يضيف: "أنصت، أنا أظن أنك رجل متعلم. وأحترم ذلك. وفي أغلب الأوقات، أنت على حق." لكن ملامحه أصبحت جديّة فجأة: "لكن الآن، وهنا، وفي هذه الليلة بالذات، أنت مخطئ. مخطئ تمامًا. ولا تريد أن تكون في الجهة الخطأ من النار حين تكتشف ذلك."

نبرة اليقين المسطحة و الواضحة في صوت الرجل أرسلت قشعريرة تمر في ظهر "المؤرّخ". وبينما يشعر بشيء من الحماقة، خطا بحذر ليدور حول النار نحو الجهة الأخرى من النار.

رمقه الرجل بنظرة سريعة فاحصة: "لا أظن أنّك تحمل سلاحًا؟"

هزّ المؤرّخ رأسه. "لن يُحدث فرقًا. السيف لن يُجدي كثيرًا." ،ناولَه قطعة خشبية ثقيلة من الحطب المشتعل. "، ربما لن تتمكّن من إصابة واحد منهم، لكن الأمر يستحق المحاولة. إنهم سريعين. إن تسلّق واحد منهم جسدك، فقط ارمِ نفسك أرضًا. حاول أن تسقط فوقه، اسحقه بجسدك. تدحرج عليه. وإن أمسكت بأحدهم، اقذفه في النار."

ثم أعاد رفع القلنسوة فوق رأسه، وتكلّم بسرعة: "إن كان معك أي ملابس إضافية، ارتدها. إن كان لديك بطانية، فلفّ نفسك بها—" ،توقف فجأة وحدّق عبر دائرة وهج النار. "ضع ظهرك على الجدار!" قالها بحدة، ورفع هراوته الحديدية بكلتا يديه.

نظر المؤرّخ إلى ما وراء النار، فرأى شيئًا مظلمًا يتحرك بين الأشجار. دخلت تلك الأشياء إلى نطاق ضوء النار، تتحرك منخفضة على الأرض: أشكال سوداء، كثيرة الأرجل، بحجم عجلات العربات. واحد منها، كان أسرع من البقية، اندفع دون تردد إلى داخل وهج النار، يتحرّك بسرعة حشرية مشؤومة و متَلويّة.

وقبل أن يتمكن المؤرّخ من رفع قطعة الحطب، انحرفت تلك الكتلة السوداء حول النار وقفزت عليه كالجندب. رفع المؤرّخ يديه في اللحظة التي ارتطمت فيها تلك الكتلة السوداء بوجهه وصدره. ساقاها الصلبتان الباردتان خربشتا جسده في محاولة للتشبّث، وشعر بشرائط لاذعة من الألم تلسع ذراعه من الخلف. تراجع مترنحًا، وتعثرت قدمه في الأرض الوعرة، فبدأ يسقط إلى الوراء وذراعاه ترفرفان بفوضى. وفي لحظة السقوط، لمح المؤرّخ لمحة أخيرة من دائرة النار: المزيد من تلك الكائنات السوداء كانت تزحف خارجة من الظلام، وأقدامها تضرب الجذور والصخور والأوراق بإيقاع نقر سريع.

وعلى الجهة المقابلة من النار، وقف الرجل ذو المعطف الثقيل ممسكًا بهراوته الحديدية بكلتا يديه، لا يتحرّك ولا ينبس ببنت شفة... ينتظر.

وهو ما يزال يسقط إلى الوراء والكائن المظلم فوقه، شعر المؤرّخ بشعور خافت و قاتم و انفجار مظلم حين ارتطمت مؤخرة رأسه بالحائط الحجري خلفه. تباطأ العالم، ثم أصبح ضبابيًّا، ثم اسودّ تمامًا.

فتح المؤرّخ عينيه على خليط مشوَّش من الظلال والنار. جمجمته تنبض بالألم. كانت هناك خطوط من الألم الحاد والواضح تعبر خلف ذراعيه، ووجع ثقيل يشد جانبه الأيسر كلما حاول أن يتنفس. وبعد لحظة طويلة من التركيز، بدأت الرؤية تتضح شيئًا فشيئًا. الرجل الملفوف بالعباءة كان جالسًا بالجوار. لم يعُد يرتدي قفازاته، وكان عباءته الثقيلة ممزقة ومتدلية عن جسده، لكنه بدا سليمًا إلى حدٍّ كبير. قلنسوته كانت مرفوعة، تحجب وجهه.

"أفقتَ؟" سأل الرجل بفضول. "هذا جيّد، لا يمكن للمرء أن يتيقن أبدًا من إصابات الرأس." مالت القلنسوة قليلًا. "هل تستطيع الكلام؟ هل تعرف أين أنت؟"

"نعم..." أجاب المؤرّخ بصوت غليظ. بدا وكأن مجرّد لفظ الكلمة تطلّب جهدًا بالغًا.

"أفضل من ذلك. والآن، الثالثة ثابتة و تنهي كل شيء. هل تظن أنّك قادر على الوقوف ومساعدتي؟ علينا حرق الجثث ودفنها."

حرّك المؤرّخ رأسه قليلًا، وشعر بدوار وغثيان فجائي، "ما الذي حصل؟"

"ربما كسرتُ لك ضلعين" قال الرجل. "أحدهم كان فوقك تمامًا. لم تكن لديّ خيارات كثيرة." هز كتفيه. "أعتذر، على قدر ما يفيد ذلك. لقد خيطت الجروح في ذراعيك. ستتعافى على ما يُفترض."

"اختفَوا؟" تساءل المؤرخ.

أومأت ذو القلنسوة مرة واحدة. "الـ سكرايل لا يفرّون. إنهم مثل خلية دبابير. يهاجمون حتى الموت."

انتشر الذعر على وجه المؤرّخ. "هل هناك خلية من هذه الأشياء؟"

"يا إلهي، لا." قال الرجل بنبرة ساخرة. "لم يكونوا سوى هؤلاء الخمسة. لكن لا بد أن نحرقهم وندفنهم، احتياطًا لا أكثر. لقد قطعتُ الحطب الذي سنحتاجه سلفًا: رماد و روان ."

ضحك "المؤرّخ" ضحكة خفيفة فيها شيء من الهستيريا، تمامًا كأغنية الأطفال:

"دعني أخبرك ما الذي يجب فعله،

احفر حفرة بطول عشرة وعرض اثنين،

خشب رماد و دَرْدار و روان أيضًا..." [1]

"بالفعل." قال الرجل الملفوف ببرود. "ستُفاجأ بكمّ الأشياء التي تُخبَّأ في أغاني الأطفال. لكن رغم أني لا أظنّ أنّ علينا الحفر لعشرة أقدام فعلًا، إلا أنني لن أرفض القليل من المساعدة..." ثم توقّف، تاركًا عبارته معلّقة بتلميح واضح.

حرّك "المؤرّخ" يده ليلمس مؤخرة رأسه برفق، ثم نظر إلى أصابعه، متفاجئًا بعدم وجود دم. "أعتقد أنني بخير." قال ذلك وهو يرفع نفسه بحذر على كوعه، ومن هناك جلس. "هل يوجد..." لم يُكمل. حتى رمشت عيناه، ثم ارتخى جسده بالكامل وسقط إلى الوراء بلا مقاومة. ارتطم رأسه بالأرض، ارتدّ قليلًا، ثم استقرّ مائلًا إلى الجانب. جلس "كوت" في صمت لبضع لحظات طويلة، يراقب الرجل المُغمى عليه. وحين لم يرَ منه أي حركة سوى ارتفاع صدره وهبوطه ببطء، نهض بتثاقل وجلس إلى جانبه. رفع جفنه أولًا، ثم الآخر، وأطلق صوتًا خافتًا دون أن يبدو عليه كثير من الدهشة.

"لا أظنّ أن هناك فرصة لأن تستفيق مجددًا، أليس كذلك؟" قالها بصوت خافت يخلو من الأمل.

ربّت بخفة على خدّ المؤرّخ الشاحب. "لا فرصة لــ..." ،قطرة دم سقطت على جبين المؤرّخ، تلتها أخرى. اعتدل "كوت" حتى لم يعُد منحنيًا فوق الرجل المُلقى، ثم مسح الدم قدر ما استطاع، رغم أن يداه كانتا ملوثتين بالدماء أصلًا. "عذرًا..." قالها بشرود. تنهد تنهيدة عميقة، ثم دفع قلنسوته إلى الخلف.

كان شعره الأحمر ملتصقًا برأسه، ونصف وجهه مغطى بطبقة من الدماء الجافة. بدأ في نزع ما تبقى من عباءته الممزقة. تحتها كان يرتدي مئزرًا جلديًّا كـما يرتديه الحدّادون، وقد تمزّق تمامًا من كثرة الضربات. نزعه هو الآخر، كاشفًا عن قميص رمادي بسيط من نسيج منزلي. كتفاه وذراعه اليسرى كانتا مبللتين بالدماء. لامس أزرار قميصه بأصابعه لثوانٍ، ثم تراجع عن فكرة نزع القميص. وقف ببطء، متألمًا، ثم التقط المجرفة، وبدأ الحفر... ببطء، وبألم.


ملاحظات :

1:  هنا يقصد أنواع خشب حتى الرماد هو نوع من الخشب، وهي أشجار مرتبطة بالفولكلور الأوروبي لطرد الأرواح، الحماية من السحر، أو استخدامها في طقوس الدفن…

في منتصف الطريق إلى “نُواَرْ” كان المؤرّخ يمشي. البارحة كان يعرج، لكنّ اليوم لم يكن في قدميه موضع إلا و يؤلمه، ولهذا لم يعد هناك فائدة لملاحظة العرج في مَشْيه. بحث عن خيول في "آبوتس فورد " و "رانيش"، عارضًا أسعارًا فاحشة مقابل حتى أكثر الدواب وهنًا وتعبًا. لكن في بلدات صغيرة كهذه، لم يكن لدى الناس خيول أو دوابّ فائضة عن حاجتهم، لا سيّما مع اقتراب موسم الحصاد. رغم مشيه طوال اليوم، بقي في الطريق حين حلّ الليل، فصارت الطريق الترابية المتشققة أرضًا تعجّ بأشكال شبه مرئية يتعثر فيها. وبعد ساعتين من التخبط في الظلام، لمح المؤرّخ ضوءًا يتلألأ من بين الأشجار من بعيد، فتخلى عن فكرة الوصول إلى نُواَر تلك الليلة، مقرّرًا أن ضيافة مزرعة قريبة ستكون كافية ومُرحّبًا بها. غادر الطريق، متخبطًا بين الأشجار باتجاه الضوء. لكن النار كانت أبعد مما ظنّ، وأضخم. لم تكن ضوء مصباح من بيت، ولا شرارة من نار معسكر. بل كانت نارًا عظيمة تشتعل في خرائب بيت قديم، لم يبقَ منه سوى جدارين حجريّين متداعيَيْن. وكان متكوّرًا في زاوية الجدارين رجلٌ يرتدي عباءة ثقيلة ذات غطاء للرأس، متلفّحًا كأنّ الشتاء في أوجه، لا أنّها أمسية خريفية معتدلة. انتعشت آمال المؤرّخ حين رأى نارًا صغيرة للطبخ فوقها قدر معلّق. لكنه حين اقترب، شمّ رائحة نتنة امتزجت بدخان الخشب. كانت تفوح منها رائحة شعر محترق وزهور متعفنة. قرّر بسرعة أنّ أيّاً ما كان الرجل يطبخه في قدر الحديد، فهو لا يريد منه شيئًا. ومع ذلك، حتى مكان بجوار النار كان أفضل من أن يلتفّ على نفسه بجانب الطريق. خطا المؤرّخ داخل دائرة ضوء النار. "لقد رأيت نـ..." توقف فجأة حين قفز الرجل واقفًا بسرعة، ممسكًا سلاحًا بكلتا يديه. لم يكن سيفًا، بل هراوة طويلة داكنة، منتظمة الشكل أكثر من أن تكون قطعة حطب عادية. تجمّد المؤرّخ في مكانه. "كنت فقط أبحث عن مكان لأنام فيه،" قال بسرعة، ويده تمسك لا شعوريًا بالدائرة الحديدية المعلّقة حول عنقه. "لا أريد أي مشاكل. سأدعك لعشائك." ثم خطا خطوة إلى الوراء. ارتخى الجسد، وأسقط الهراوة ليُصدر صوتًا معدنيًا خشنًا عند ارتطامه بالصخر. "بحق الجحيم، ما الذي تفعله هنا في مثل هذا الوقت من الليل؟" "كنت متجهًا نحو نُوآر ورأيت نارك." "هكذا ببساطة؟ رأيت نارًا غريبة في الغابة ليلاً، فتبعتها؟" هزّ الرجل المقنّع رأسه ثم أشار للمؤرّخ أن يقترب: "تعال إلى هنا إذًا." لاحظ المؤرّخ أنه كان يرتدي قفّازات جلدية سميكة. "يا إلهي، هل كنت منحوسًا طوال حياتك، أم ادّخرت كلّ نحسك لهذه الليلة فقط؟" قال المؤرّخ، متراجعًا خطوة إلى الخلف: "لا أعرف من الذي تنتظره، لكنني واثق أنّك تفضّل أن تقوم بذلك وحدك." "اصمت واستمع." قالها الرجل بحدّة. "لا أعرف كم من الوقت لدينا." ثم نظر إلى الأسفل، وفرك وجهه بيده. "يا إلهي، لا أعلم أبدًا كيف ينبغي أن أخبركم أيها الناس. إن لم تصدّقني، ستظنني مجنونًا. وإن صدّقتني، ستذعر وتصبح أسوأ من عديم النفع." ،رفع بصره مجددًا، فرأى "المؤرّخ" ما يزال في مكانه. "اقترب، اللعنة عليك. إن خرجت من هنا، فأنت ميت لا محالة." نظر المؤرّخ خلفه نحو ظلمة الغابة وسأل: "لماذا؟ ما الذي هناك؟" ضحك الرجل ضحكة قصيرة ومريرة، ثم هزّ رأسه بتأفف و يأس : "بصدق؟" ،مرر يده في شعره بلا تفكير، ما كشف عن لون شعره في وهج النار — كان أحمر بشكل مستحيل، وعيناه بلون أخضر نابض حيّ بشكل صادم. تأمّله برهة وكأنه يقوّمه بعينيه، ثم قال: "شياطين. شياطين على هيئة عناكب سوداء ضخمة." استرخى المؤرّخ، وقال بنبرة واضحة تدل على تكرارها لمرات كثيرة: "لا وجود للشياطين." قهقه الرجل ذو الشعر الأحمر بدهشة وقال بسخرية: "حسنٌ، إذاً يمكننا جميعًا العودة إلى بيوتنا!" ، ثم ابتسم ابتسامة مجنونة وهو يضيف: "أنصت، أنا أظن أنك رجل متعلم. وأحترم ذلك. وفي أغلب الأوقات، أنت على حق." لكن ملامحه أصبحت جديّة فجأة: "لكن الآن، وهنا، وفي هذه الليلة بالذات، أنت مخطئ. مخطئ تمامًا. ولا تريد أن تكون في الجهة الخطأ من النار حين تكتشف ذلك." نبرة اليقين المسطحة و الواضحة في صوت الرجل أرسلت قشعريرة تمر في ظهر "المؤرّخ". وبينما يشعر بشيء من الحماقة، خطا بحذر ليدور حول النار نحو الجهة الأخرى من النار. رمقه الرجل بنظرة سريعة فاحصة: "لا أظن أنّك تحمل سلاحًا؟" هزّ المؤرّخ رأسه. "لن يُحدث فرقًا. السيف لن يُجدي كثيرًا." ،ناولَه قطعة خشبية ثقيلة من الحطب المشتعل. "، ربما لن تتمكّن من إصابة واحد منهم، لكن الأمر يستحق المحاولة. إنهم سريعين. إن تسلّق واحد منهم جسدك، فقط ارمِ نفسك أرضًا. حاول أن تسقط فوقه، اسحقه بجسدك. تدحرج عليه. وإن أمسكت بأحدهم، اقذفه في النار." ثم أعاد رفع القلنسوة فوق رأسه، وتكلّم بسرعة: "إن كان معك أي ملابس إضافية، ارتدها. إن كان لديك بطانية، فلفّ نفسك بها—" ،توقف فجأة وحدّق عبر دائرة وهج النار. "ضع ظهرك على الجدار!" قالها بحدة، ورفع هراوته الحديدية بكلتا يديه. نظر المؤرّخ إلى ما وراء النار، فرأى شيئًا مظلمًا يتحرك بين الأشجار. دخلت تلك الأشياء إلى نطاق ضوء النار، تتحرك منخفضة على الأرض: أشكال سوداء، كثيرة الأرجل، بحجم عجلات العربات. واحد منها، كان أسرع من البقية، اندفع دون تردد إلى داخل وهج النار، يتحرّك بسرعة حشرية مشؤومة و متَلويّة. وقبل أن يتمكن المؤرّخ من رفع قطعة الحطب، انحرفت تلك الكتلة السوداء حول النار وقفزت عليه كالجندب. رفع المؤرّخ يديه في اللحظة التي ارتطمت فيها تلك الكتلة السوداء بوجهه وصدره. ساقاها الصلبتان الباردتان خربشتا جسده في محاولة للتشبّث، وشعر بشرائط لاذعة من الألم تلسع ذراعه من الخلف. تراجع مترنحًا، وتعثرت قدمه في الأرض الوعرة، فبدأ يسقط إلى الوراء وذراعاه ترفرفان بفوضى. وفي لحظة السقوط، لمح المؤرّخ لمحة أخيرة من دائرة النار: المزيد من تلك الكائنات السوداء كانت تزحف خارجة من الظلام، وأقدامها تضرب الجذور والصخور والأوراق بإيقاع نقر سريع. وعلى الجهة المقابلة من النار، وقف الرجل ذو المعطف الثقيل ممسكًا بهراوته الحديدية بكلتا يديه، لا يتحرّك ولا ينبس ببنت شفة... ينتظر. وهو ما يزال يسقط إلى الوراء والكائن المظلم فوقه، شعر المؤرّخ بشعور خافت و قاتم و انفجار مظلم حين ارتطمت مؤخرة رأسه بالحائط الحجري خلفه. تباطأ العالم، ثم أصبح ضبابيًّا، ثم اسودّ تمامًا. فتح المؤرّخ عينيه على خليط مشوَّش من الظلال والنار. جمجمته تنبض بالألم. كانت هناك خطوط من الألم الحاد والواضح تعبر خلف ذراعيه، ووجع ثقيل يشد جانبه الأيسر كلما حاول أن يتنفس. وبعد لحظة طويلة من التركيز، بدأت الرؤية تتضح شيئًا فشيئًا. الرجل الملفوف بالعباءة كان جالسًا بالجوار. لم يعُد يرتدي قفازاته، وكان عباءته الثقيلة ممزقة ومتدلية عن جسده، لكنه بدا سليمًا إلى حدٍّ كبير. قلنسوته كانت مرفوعة، تحجب وجهه. "أفقتَ؟" سأل الرجل بفضول. "هذا جيّد، لا يمكن للمرء أن يتيقن أبدًا من إصابات الرأس." مالت القلنسوة قليلًا. "هل تستطيع الكلام؟ هل تعرف أين أنت؟" "نعم..." أجاب المؤرّخ بصوت غليظ. بدا وكأن مجرّد لفظ الكلمة تطلّب جهدًا بالغًا. "أفضل من ذلك. والآن، الثالثة ثابتة و تنهي كل شيء. هل تظن أنّك قادر على الوقوف ومساعدتي؟ علينا حرق الجثث ودفنها." حرّك المؤرّخ رأسه قليلًا، وشعر بدوار وغثيان فجائي، "ما الذي حصل؟" "ربما كسرتُ لك ضلعين" قال الرجل. "أحدهم كان فوقك تمامًا. لم تكن لديّ خيارات كثيرة." هز كتفيه. "أعتذر، على قدر ما يفيد ذلك. لقد خيطت الجروح في ذراعيك. ستتعافى على ما يُفترض." "اختفَوا؟" تساءل المؤرخ. أومأت ذو القلنسوة مرة واحدة. "الـ سكرايل لا يفرّون. إنهم مثل خلية دبابير. يهاجمون حتى الموت." انتشر الذعر على وجه المؤرّخ. "هل هناك خلية من هذه الأشياء؟" "يا إلهي، لا." قال الرجل بنبرة ساخرة. "لم يكونوا سوى هؤلاء الخمسة. لكن لا بد أن نحرقهم وندفنهم، احتياطًا لا أكثر. لقد قطعتُ الحطب الذي سنحتاجه سلفًا: رماد و روان ." ضحك "المؤرّخ" ضحكة خفيفة فيها شيء من الهستيريا، تمامًا كأغنية الأطفال: "دعني أخبرك ما الذي يجب فعله، احفر حفرة بطول عشرة وعرض اثنين، خشب رماد و دَرْدار و روان أيضًا..." [1] "بالفعل." قال الرجل الملفوف ببرود. "ستُفاجأ بكمّ الأشياء التي تُخبَّأ في أغاني الأطفال. لكن رغم أني لا أظنّ أنّ علينا الحفر لعشرة أقدام فعلًا، إلا أنني لن أرفض القليل من المساعدة..." ثم توقّف، تاركًا عبارته معلّقة بتلميح واضح. حرّك "المؤرّخ" يده ليلمس مؤخرة رأسه برفق، ثم نظر إلى أصابعه، متفاجئًا بعدم وجود دم. "أعتقد أنني بخير." قال ذلك وهو يرفع نفسه بحذر على كوعه، ومن هناك جلس. "هل يوجد..." لم يُكمل. حتى رمشت عيناه، ثم ارتخى جسده بالكامل وسقط إلى الوراء بلا مقاومة. ارتطم رأسه بالأرض، ارتدّ قليلًا، ثم استقرّ مائلًا إلى الجانب. جلس "كوت" في صمت لبضع لحظات طويلة، يراقب الرجل المُغمى عليه. وحين لم يرَ منه أي حركة سوى ارتفاع صدره وهبوطه ببطء، نهض بتثاقل وجلس إلى جانبه. رفع جفنه أولًا، ثم الآخر، وأطلق صوتًا خافتًا دون أن يبدو عليه كثير من الدهشة. "لا أظنّ أن هناك فرصة لأن تستفيق مجددًا، أليس كذلك؟" قالها بصوت خافت يخلو من الأمل. ربّت بخفة على خدّ المؤرّخ الشاحب. "لا فرصة لــ..." ،قطرة دم سقطت على جبين المؤرّخ، تلتها أخرى. اعتدل "كوت" حتى لم يعُد منحنيًا فوق الرجل المُلقى، ثم مسح الدم قدر ما استطاع، رغم أن يداه كانتا ملوثتين بالدماء أصلًا. "عذرًا..." قالها بشرود. تنهد تنهيدة عميقة، ثم دفع قلنسوته إلى الخلف. كان شعره الأحمر ملتصقًا برأسه، ونصف وجهه مغطى بطبقة من الدماء الجافة. بدأ في نزع ما تبقى من عباءته الممزقة. تحتها كان يرتدي مئزرًا جلديًّا كـما يرتديه الحدّادون، وقد تمزّق تمامًا من كثرة الضربات. نزعه هو الآخر، كاشفًا عن قميص رمادي بسيط من نسيج منزلي. كتفاه وذراعه اليسرى كانتا مبللتين بالدماء. لامس أزرار قميصه بأصابعه لثوانٍ، ثم تراجع عن فكرة نزع القميص. وقف ببطء، متألمًا، ثم التقط المجرفة، وبدأ الحفر... ببطء، وبألم. ملاحظات : 1:  هنا يقصد أنواع خشب حتى الرماد هو نوع من الخشب، وهي أشجار مرتبطة بالفولكلور الأوروبي لطرد الأرواح، الحماية من السحر، أو استخدامها في طقوس الدفن…

---

ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن

أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات
لا تنسى وضع تعليق للمترجم فهذا يساعده على الاستمرار ومواصلة العمل عندما يرى تشجيعًا.

Comment

اترك تعليقاً

Ads Blocker Image Powered by Code Help Pro

تم كشف مانع اعلانات

للتخلص من جميع الاعلانات، نقدم لك موقعنا المدفوع kolnovel.com

اعدادات القارئ

لايعمل مع الوضع اليلي
لتغير كلمة إله الى شيء أخر
إعادة ضبط