يوم جميل
يوم جميل
كان ذلك واحدًا من أيام الخريف المثالية، تلك التي تكثر في القصص وتَندِر في الواقع.
كان الطقس دافئًا وجافًّا، مثاليًّا لنضج حقل من القمح أو الذرة. وعلى جانبي الطريق، كانت الأشجار تغيّر ألوانها؛ أصبحت الحَوْرُ الطويلة صفراء كالزبدة، في حين اكتسى السُّمّاق المُتشعّب و الزاحف على أطراف الطريق بحُمرة فاقعة. أما أشجار البلوط العتيقة وحدها، فبدت مترددة في التخلي عن الصيف، فأوراقها ظلّت مزيجًا متوازنًا من الذهب والأخضر.
وبعد كل ما قيل، لا يمكنك أن تأمل في يوم أجمل من هذا...
ليقوم نصفُ دزّينةٍ من الجنود السابقين، يحملون أقواس الصيد، بتجريدك من كل ما تملك.[1]
قال 'المؤرخ' (Chronicler):"ليست جوادًا جيدًا يا سيدي... مجرد خطوة صغيرة فوق حصان العربات،وعندما تمطر، فإنها..." [2]
قاطعه الرجل بإشارة حادة من يده، "اسمع، صديقي، جيش الملك يدفع جيدًا مقابل أي شيء له أربع قوائم وعين واحدة على الأقل. حتى لو كنت مجنونًا تمامًا وتمتطي حصانًا خشبيًّا في الطريق، لأخذته منك أيضًا."
كان لقائدهم هالة آمرٍ. خمن المؤرخ أنه كان ضابطًا منخفض الرتبة في وقت غير بعيد.
قال له بلهجة جادة: "فقط انزل، سنُنهي هذا سريعًا، ثم يمكنك أن تتابع طريقك."
نزل المؤرخ من على حصانه. و كان قد تعرّض للسرقة من قبل، ويعرف جيدًا متى يكون لا جدوى من النقاش.
هؤلاء الرجال يعرفون ما يفعلونه؛ لا طاقة تُهدر في تبجّح أو تهديدات فارغة.
تفحّص أحدهم الحصان، و نظر إلى حوافره وأسنان فمه واللجام أيضا، بينما بدأ اثنان آخران بتفتيش حقائبه بأسلوب عسكري دقيق، ووضعوا جميع ممتلكاته على الأرض:
بطّانيّتان، عباءة بقلنسوة، حقيبة جلدية مسطحة، وحقيبة سفر ثقيلة و ممتلئة.
قال أحدهم: "هذا كل شيء، أيها القائد، باستثناء حوالي عشرين رطلاً من الشوفان."
ركع القائد وفتح الحقيبة الجلدية المسطّحة، متطلّعًا إلى داخلها...
قاطعه المؤرّخ قائلا: "ليس في الحقيبة سوى أوراق وأقلام".
استدار القائد بنظره إلى الخلف وقال: "أأنت كاتب إذًا؟"
أومأ المؤرّخ برأسه. "هذه مهنتي يا سيدي. ولا فائدة حقيقية لكم من هذه الأدوات."
تفقّد الرجل الحقيبة، ووجد الأمر كما قيل له، فتنحّى بها جانبًا. ثم قلب حقيبة السفر على عباءة المؤرّخ المبسوطة، وراح يقلّب محتوياتها بفتور.
أخذ أغلب ما تبقّى من ملح المؤرّخ، وزوجًا من أربطة الحذاء. ثم، مما أزعج المؤرخ كثيرًا، التقط القميص الذي اشتراه من لينوود (Linwood).
كان من الكتّان الفاخر، مصبوغًا بلون أزرق ملكيّ عميق، و كان أنيقًا أكثر من اللازم على رحلات الطريق. ولم تُتح له الفرصة حتى أن يلبسه، فتنهد.
ترك القائد بقية الأغراض ملقاة على العباءة، ونهض واقفًا. وبدأ الباقون يتناوبون على تفتيش ممتلكات المؤرّخ.
قال القائد: "لديك بطانية واحدة فقط، أليس كذلك يا جانز (Janns)؟"
أومأ أحد الرجال. و تابع : "خذ واحدة من بطانياته إذًا، ستحتاج إلى ثانية قبل أن ينتهي الشتاء."
"عباءته بحال أفضل من عباءتي يا سيدي."
"خذها إذا، لكن اترك عباءتك. والأمر ذاته لك، يا ويتكنز (Witkins). اترك علبة الإشعال القديمة خاصتك إن كنت ستأخذ خاصّته."
"لقد أضعت علبتي، سيدي، وإلا لكنت فعلت." قال ويتكنز.
كانت العملية بأسرها، على نحو مدهش، متحضّرة[3].
فقد المؤرّخ جميع إبَره ما عدا واحدة، وزوجي الجوارب الإضافيين، ولفافة من الفواكه المجفّفة، ورغيفًا من السكر، ونصف زجاجة من الكحول، وزوجًا من نٍرد العاج. وتركوا له ما تبقى من ملابسه، وقطعًا من اللحم المجفّف، ورغيفًا نصف مأكول من خبز الجاودار القديم القاسي بشكل لا يُحتمل.
وظلّت حقيبته الجلدية المسطحة كما هي، لم يمسّها أحد.
وأثناء قيام الرجال بإعادة توضيب حقيبة السفر، التفت القائد إلى المؤرّخ وقال: "والآن، لنرَ حقيبة النقود."
ناول المؤرّخ القائدَ حقيبة النقود.
قال القائد: "والخاتم؟"
تمتم المؤرّخ وهو يفكّ الخاتم من إصبعه: "بالكاد يحوي شيئًا من الفضّة."
قال الرجل وهو يشير إلى عنق المؤرّخ: "وما ذاك المُعلّق هناك؟"
فتح المؤرّخ أزرار قميصه، كاشفًا عن حلقة معدنية باهتة معلّقة بخيط جلدي، "مجرّد حديد، يا سيدي."
اقترب القائد، وفركها بين أصابعه، ثم تركها تسقط و ترتطم بصدر المؤرّخ. و قال: "احتفظ به إذن. لا أحبّ التدخّل بين الرجل ودينه." ثم أفرغ الحقيبة في راحة يده، وأطلق صوت دهشة مفعم بالسرور وهو يقلّب العملات بإصبعه.
قال وهو يبدأ بتقسيم الغنائم بين رجاله: "النسخ[4] يدفع أفضل مما كنت أظنّ."
قال المؤرّخ: "لا أظنّ أنك تمانع أن تُبقي لي فلسًا أو اثنين؟ فقط ما يكفي لوجبتين ساخنتين على الأقل؟"
استدار الرجال الستة ينظرون إليه، كأنهم لم يصدّقوا ما سمعوه.
ضحك القائد وقال: "يا إلهي ! تملك زوجًا ثقيلًا [5] حقًا، أليس كذلك؟"
كان في صوته نبرة احترام، وإنْ كان مشوبًا بالسخرية.
هزّ المؤرّخ كتفيه وقال: "تبدو لي رجلًا عاقلًا، وتعلم أن المرء بحاجة لأن يأكل."
ابتسم القائد للمرة الأولى وقال: "قولٌ لا أختلف فيه معك."
أخرج فلسين، لوّح بهما، ثم أعادهما إلى الحقيبة قائلاً:" إذن، إليك زوجًا يُقابل زوجك."
ثم قذف الحقيبة إلى المؤرّخ، وحشر القميص الأزرق الملكي الجميل في حقيبة سرجه.
قال المؤرّخ: "شكرًا لك، يا سيدي. وأظنّك تود أن تعلم أن الزجاجة التي أخذها أحد رجالِك تحوي كحولًا خشبيًّا أستخدمه لتنظيف أقلامي. ستكون عاقبته وخيمة إن شربها."
ابتسم القائد وأومأ برأسه. "أرأيتم ما الذي يجنيه الإنسان من معاملة الناس بالحسنى؟" قال لرجاله وهو يعتلي حصانه.
ثم تابع كلام: "لقد كان من دواعي السرور، أيها الكاتب المحترم. إن تحركت الآن، قد تصل إلى 'آبوتس فورد' [6] قبل حلول الظلام."
حينما اختفت حوافر خيولهم في المدى البعيد، ولم يعد يسمع وقعها، أعاد المؤرّخ ترتيب حقيبته، متأكدًا من إحكام ترتيب كل شيء في مكانه.
ثم خلع أحد حذائه، ونزع البِطانة، وأخرج رزمة مشدودة بإحكام من النقود مخبأة عميقًا في مقدمة الحذاء.
نقل بعض القطع منها إلى محفظته، ثم فك سرواله وأخرج رزمة أخرى من النقود كانت مدسوسة تحت عدّة طبقات من الملابس، وأدخل منها شيئًا في المحفظة أيضًا.
كان السرّ يكمن في إبقاء القدْر المناسب من المال داخل المحفظة. القليل جدًا، يجعلهم ساخطين، وقد يدفعهم للبحث أكثر. الكثير جدًا، يجعلهم متحمسين، وقد يُغريهم الطمع.
كانت هناك رزمة ثالثة من النقود مخبأة داخل رغيف الخبز اليابس، قد لا يهتم لها سوى أكثر اللصوص يأسًا.
تركها جانبًا في الوقت الحالي، وكذلك قطعة الفضة الثمينة التي خبّأها داخل قنينة الحبر. و مع مرور السنوات، بدأ ينظر إلى الأخيرة كأنها تميمة حظ. لم يعثر عليها أحد من قبل. عليه أن يعترف، ربما كانت هذه أكثر عملية سطو تحضّرًا مرّ بها. كانوا مهذبين، فعّالين، وإن لم يكونوا أذكياء تمامًا.
كان فقدان الحصان والسرج مؤلمًا، لكن لا بأس، يمكنه شراء آخر في آبوتس فورد، وسيبقى لديه ما يكفي من المال ليعيش براحة...
على الأقل حتى يُنهي هذه الحماقة، ويصل إلى 'سكارپي' (Skarpi) في تريا (Treya).
وقد شعر بنداء الطبيعة يدعوه، فتقدّم عبر أشجار السُمّاق الدامية عند طرف الطريق.
وأثناء إعادة زرّ سرواله، تحرّكت فجأة كتلة داكنة في الأدغال القريبة، تخبطت خارجة من الشجيرات. تراجع المؤرّخ مذعورًا، صائحًا بفزع... قبل أن يدرك أنها ليست سوى غرابٍ يضرب جناحيه طائرًا في الجو.
ضحك ساخرًا من نفسه، أعاد ترتيب ملابسه، وعاد إلى الطريق عبر شجيرات السُمّاق، مُزيحًا عن وجهه خيوط العنكبوت الخفية التي دغدغته كأنها أشباح خفيفة. وبينما يحمل حقيبته ومحفظته على كتفيه، شعر المؤرّخ بشيء من البهجة الخفيفة.
لقد حدث الأسوأ، ومع ذلك... لم يكن بذلك السوء. هَبَّت نسمة هواء بين الأشجار، وأطلقت أوراق الحَوْر تدور كالعملات الذهبية على الطريق التُّرابي المتشقّق.
5: الكلمة بالإنجليزية pair هنا تشير ضمنيًا إلى "الغاليتين"، فـ "a heavy pair" تعني حرفيًا "زوج ثقيل"، والمقصود بها: "تملك جرأة لا تصدّق". وتُستخدم مجازيًا للإشارة إلى الشجاعة أو الجرأة اللافتة. كنصيحة عندما تسرق أحدا تصرف بأدب مثل القائد.
لقد كان يومًا جميلاً.
ملاحظات :
5: الكلمة بالإنجليزية pair هنا تشير ضمنيًا إلى "الغاليتين"، فـ "a heavy pair" تعني حرفيًا "زوج ثقيل"، والمقصود بها: "تملك جرأة لا تصدّق". وتُستخدم مجازيًا للإشارة إلى الشجاعة أو الجرأة اللافتة. كنصيحة عندما تسرق أحدا تصرف بأدب مثل القائد.
{
1: هنا استخدم أسلوب سخرية المهم وصلكم المعنى،أما الدزينة "Douzaine" لفظة مُعربة، و تعني مجموعة تتكون من اثني عشر شخصا تقريبا أي هنا ستة.
لقد كان يومًا جميلاً. ملاحظات :
2: هنا ذكر أن حصانه من نوع جر العربات والذي يكون عادة ثقيلا
6: Abbott: تعني "رئيس دير" ، "الأباتي"، وهو لقب ديني مسيحي. أما Ford فتعني مَعبر أي "معبر آبوت"...، عموما هو اسم مكان و لا أهتم سبب تسميته هكذا، مستقبلا لن أشرح تسميات الأماكن.
3: الكاتب وظف مفارقة ساخرة هنا في وصفه فعل السرقة ( الذي هو في طبيعته عدواني وهمجي )، بأنه "متحضّر" فقط لأن اللصوص يتقاسمون الأشياء بأدب ولا يصرخون أو يعنفون المؤرخ. و هذا يعكس تحوّل القيم العسكرية النبيلة (التنظيم والنظام...) إلى أدوات للنهب. وكأنه يشير بسخرية إلى مدى كَون الفساد أنيقًا حين يُمارَس بزيّ عسكري. وهذا ما نعيشه في واقعنا ، يا لها من سفسطة من الكاتب.
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com 4: إهانة لعمل المؤرخ الذي هو كاتب
4: إهانة لعمل المؤرخ الذي هو كاتب
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com 4: إهانة لعمل المؤرخ الذي هو كاتب
5: الكلمة بالإنجليزية pair هنا تشير ضمنيًا إلى "الغاليتين"، فـ "a heavy pair" تعني حرفيًا "زوج ثقيل"، والمقصود بها: "تملك جرأة لا تصدّق". وتُستخدم مجازيًا للإشارة إلى الشجاعة أو الجرأة اللافتة. كنصيحة عندما تسرق أحدا تصرف بأدب مثل القائد.
2: هنا ذكر أن حصانه من نوع جر العربات والذي يكون عادة ثقيلا
6: Abbott: تعني "رئيس دير" ، "الأباتي"، وهو لقب ديني مسيحي. أما Ford فتعني مَعبر أي "معبر آبوت"...، عموما هو اسم مكان و لا أهتم سبب تسميته هكذا، مستقبلا لن أشرح تسميات الأماكن.
2: هنا ذكر أن حصانه من نوع جر العربات والذي يكون عادة ثقيلا
في النهاية لا يزال يوما جميلا، فصل ساخر بحق ، الكاتب وظف أسلوبا ساخرا هنا و ترجمته أذهبت القليل من أسلوبه، و كتفسير تافه و قديم للغراب و خيوط العنكبوت:
●الغراب غالبا قد يرمز لـ القدر أو الخطر.
●خيوط العنكبوت غالبا تُمثّل أوهام الخطر، و هي مرتبطة بالقدر و على حسب روايات كثيرة تشير إلى خيوط القدر...
{
2: هنا ذكر أن حصانه من نوع جر العربات والذي يكون عادة ثقيلا
---
ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن
أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات