صعود المقابر الأثيرية
الفصل 526 – صعود المقابر الأثيرية
منظور: آرثر ليوين
تمزقت قنواتي، ودمى جلدي. تكسرت عظامي، وغلى دمي. ومع ذلك، ظللت مركزًا بكامل ذهني على المهمة، محصورًا بأمان خارج ذاتي. أعلم أن الألم موجود، لكن هذه اللحظة كانت بالغة الأهمية، فلا يسعني فقدان نفسي أمام شيء تافه كعذاب انهيار جسدي. خيط واحد من وعيي يحفظ كل ذلك الألم على مسافة آمنة، بينما حام عقلي في الأعلى، يراقب تسونامي الأثير وهو ينسكب في الغلاف الجوي.
كافحت طبقات نواتي الثلاث، اللامعة والضعيفة كطرف منهك، للسيطرة على فيض الأثير المنبعث من كسر طبقة نواتي الرابعة. رفرفت البوابات المنغرسة في النواة، التي تربطها بقنواتي، عاجزة، ودُمّرت القنوات تمامًا. تطلب الأمر كامل وعيي المعزز بمناورة الملك، باستثناء ذلك الخيط الوحيد، لأسيطر على كل هذه القوة. به، مددت يدي إلى الأسفل والأعلى، عملت جميع رونياتي بتناغم.
بدأت المعلومات تتدفق إلى ذهني من جي-آي عبر الاتصال المُشكَّل حديثًا مع تيسيا. رأيتُ شكل أفيتوس والمقابر الأثيرية، وفهمتُ الفيزياء اللازمة، والديناميكا الحرارية، والتمدد والانكماش المكاني، ونسيج الزمن، ودفء الحياة، وهي كلها ضرورية. في الأعلى، اتسع الجرح بسرعة، وزادت وتيرة نزول أفيتوس بشكل ملحوظ.
بدأت البوابة في الأسفل تتكشف، مُسكِبةً محتويات المقابر الأثيرية المتصلة بينما جُرِّت المنطقة الأولى إلى العالم المادي حيث طفت داخل الفراغ. ارتجفت البوابة تحت ضغط قوتين متعارضتين: فيضان الأثير المُنبعث من تضحيتي بطبقة أساسية، والنهر الأثيري الذي يُهدد باجتياح ضفتيه على الجانب الآخر. انهار فناء، وهو جزء من المنطقة الأولى للمقابر الأثيرية، وانكسر عندما سحبته الجاذبية إلى أسفل، ثم استدار واندمج مرة أخرى، مُكوِّنًا أشكالًا جديدة.
أضاء الدمار مع بقية رونياتي عندما ربط ريجيس سيطرته على الرون نفسه ببصيرتي. رقصت تيارات من اللهب البنفسجي على طول المسارات الأثيرية وداخل الفضاء المتغير.
فتحت رونية الفضاء تايغرين كايلم كبيت دمية طفل بينما استقرت الهياكل التي تشكلت حديثًا من المقابر الأثرية في التجاويف المفتوحة. أحرق الدمار أي مادة غير ضرورية إلى لا شيء. تقلص الفضاء وتوسع حسب الضرورة. ربطت المسارات الأثيرية الجديد والقديم معًا. ارتجف الوقت في قفزات متوقفة بينما تكيفت المقابر الأثرية مع مرور الوقت الحقيقي.
خرجت الشوارع من البوابة بشرائط، تظهر وتعاد هيكلتها. انهارت المباني وأعيد تشكيلها تحت الضغوط المتعارضة لرونية الفضاء وقداس الشفق. قلّم الدمار باستمرار ما لم أستطع استخدامه، بينما احتفظتُ بشكل كل شيء في ذهني كمخطط رباعي الأبعاد.
في خضمّ فوضى المقابر الأثيرية التي تُفتح وتُعاد صياغتها كقارب تجديف من الورق، صرخ الناس -كل أولئك الذين كانوا محصورين فيها. العشرات في البداية، ثم المئات، يتمسكون بأيّ شيء صلب يستطيعون حمله، كلٌّ منها مُغلّفٌ بغطاءٍ من المكان والزمان.
جاهدتُ في مناورة الملك للحد المطلوب من التركيز. وبينما كنتُ أنظر من الأعلى، رأيتُ نفسي أسعل دمًا. لُطخ جسدي الممزق باللون القرمزي، ويدا تيسيا زلقتان بالدم الذي تسرب عبر بشرتي. اختلطت دموعها بالدم الذي يسيل بحرية من أنفها.
شدّدتُ تركيزي، وجذبتُ الأغصان معًا بينما أكافح لإعادة امتصاص أثيري لتعزيز الرونيات بشكل أكبر.
لَسهُل الأمر لو امتلكنا الوقت لتطهير المقابر الأثيرية تمامًا، وإغلاق جميع الصعود، وإزالة الأشخاص من المستويين الأولين. بدلاً من ذلك، كانت المقابر الأثيرية مليئة باللاجئين الهاربين من هجوم أغرونا الأخير.
ومثل أي مرحلة أخرى من هذه العملية، اضطررتُ إلى التفكير في أعلى فرصة للنجاح. سيكون إنقاذ سكان المقابر الأثيرية مثل تمرير حبات البازلاء عبر شفرات درّاس دوارة. كان الوقت والصبر والطاقة المطلوبة تضحية لم أعرف ثمنها بعد، تمامًا مثل أفيتوس.
قد تكون محاولة إنقاذ الجميع في وقت واحد هي السبب الحقيقي لعدم إنقاذي أحدًا على الإطلاق… كان هناك طقطقة مدوية من الأعلى. لقد دُفع الكثير من أفيتوس بسرعة كبيرة من خلال الجرح دون دعم بينما كنت أركز على المقابر الأثيرية.
عزلتني مناورة الملك عن الألم والخوف. ازدهرت رؤية جديدة في الدم، تنمو مثل الزهور على طول الفروع المتوسعة. كان هذا هو، غرض الرونية. تضحية حقيقية. كانت الرونية، حتى الآن، تحت السيطرة بسبب رغبتي في الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من نفسي. لكن لم أستطع فعل ذلك هنا، الآن. لا يمكن أن يكون ثمن إنقاذ المقابر الأثيرية، وأفيتوس، والأزوراس، والألاكريان، إلا أنا.
لقد بدأتُ بالفعل.
كان جسدي يُنتزع من الداخل. سحب عقلي من القشرة. لمعت نواتي وخَشُنَت، حتى ثلاث طبقات حول نواة المانا العضوية المكسورة. عليّ فعل المزيد. أن أعزل نفسي تمامًا.
وبينما يتجلى الفهم في ذهني كما تتجلى المقابر الأثيرية من البوابة، انقسم كل فرع من فروع مناورة الملك إلى فرع، ثم نما فرع جديد آخر، وتلاشى كل الألم والقلق، بعد أن تلاشى، في ضجيج خلفي لا معنى له. توسع عقلي على طول الفروع، حاملًا في داخله كامل المسارات الأثيرية التي تربط كل نقطة ببعضها، سواء تلك المستقرة في نسيج هذا العالم أو تلك التي تتشكل الآن كخلايا عصبية عبر القارة المتساقطة في الأعلى.
بدا العالم وكأنه يتنفس، وفي تلك الرياح الدافئة، رأيت الخيوط الذهبية التي تربط كل شيء معًا. كنت في المركز، إذ التفت خيوط لا تُحصى حولي وتمتد بعيدًا، إلى كل إلف وقزم وإنسان وألاكريان وأزوراس في كلا العالمين. ضاع جسدي داخل شكل بشري من خيوط ذهبية متوهجة ملفوفة بإحكام.
انقطع النفس، واختفت الخيوط من الرؤية.
في السماء، لم تعد أفيتوس تنهار، بل أصبحت الآن مرتكزة على حلقة من الأثير الخالص. الأرض، مثل المقابر الأثيرية، تكثفت وأُعيد تشكيلها وأنا أُشكّلها كطينٍ كثيف.
دار الدمار في مسارات الأثير، يتسابق على سطحها ويستهلكها بدقة متناهية.
أميالٌ تلو أميال من أفيتوس سقطت من خلال الجرح، بينما انهار جيب الفضاء المتوسع الذي لطالما وُجدت فيه. لم أملك سوى ثوانٍ لأعتاد على العملية قبل أن تتغير مجددًا، وكل خطوة للأمام ستزيد العملية تعقيدًا.
قالت سيلفي بحزم، وقد شعرت بتوتري، “هيا بنا نساعد.” ومثل تيسيا، لُطخت يداها
بدمي.
فتحت فمي لأتحدث، لكن دون جدوى. ‘أحتاج فقط… إلى بعض الوقت.’
أومأت سيلفي برأسها. أغمضت عينيها بإحكام. وامتدت القوة والأثير، على هيئة فنونها السحرية، عبر وجه العالم، مُبطئةً الزمن إلى حدّ التنقيط. صدّت
قوة مُعاكسة. شهقت سيلفي وهي تفقد تعويذتها، التي تحطمت، مُرسلةً
رعشة مُقززة في عمودي الفقري. “ماذا؟” سألت وهي لاهثة.
هناك شيءٌ ما قادم. عاصفة رعدية من المانا والأثير، بالكاد تُكبح. تنزل من أفيتوس.
“ماير،” قلت، والاسم خشن في حلقي.
كان كل أثيري تقريبًا خارج جسدي، مُشكلًا الأيدي الميتافيزيقية التي استخدمتها لتشكيل أفيتوس في الأعلى والمقابر الأثيرية في الأسفل. لهذا السبب لم أكن أُشفى. سحب ريجيس ما يحتاجه لتفعيل الدمار وتمكيني من توجيهه، لكنني لم أحتفظ إلا بما يكفي لإبقاء جسدي المنهك حيًا. الآن، جاهدتُ لأستعيد ما يكفي للدفاع عنا.
إذا هاجمت ماير…
“آرثر لوين،” دوى صوتها في الجو، عميقًا ورنانًا ومليئًا بالألم. “لقد شعرتُ بموت كيزيس، لكن لا بد أن أعرف… كيف مات؟ هل كان أغرونا؟” حملت كلماتها نبرة حادة لكنها متوسلة.
نظرتُ إلى النار المشتعلة خلف عينيها، غير قادر على الخوف. “لقد قتلتُه.”
كان هناك نفس طويل، كعاصفة في مقدمة العاصفة، قبل أن تجيب بصوت مرتجف. “لقد جلبناك بيننا. عاملناك كما لو كنت واحدًا منا. درّبناك وربيناك. دعوناك إلى أقدس أماكننا. جعلناك واحدًا منا. وأنتَ تُكافئنا بقتل الرجل الذي حافظ على هذا العالم آمنًا لفترة طويلة؟” ملاحظًا فكرتُ، الجدير بالذكر أنها لم تسأل عن السبب.
أكملت ماير هبوطها، وهي ترفرف كورقة في مهب الريح. كان وجهها كسحابة رعدية، وعيناها كبرقين.
“جدتي!” صرخت سيلفي، وهي تحلق بيني وبين ماير. “أنتِ تعلمين أنه لم يكن لديه خيار. أنتِ تعرفين أكثر من أي شخص آخر القرارات التي اتخذها كيزيس، والتي كان سيتخذها مجددًا. لكن إن لم تسمحي لنا بإنهاء ما نفعله، فسيموت كل من بقي هنا، بمن فيهم جميع أفراد شعبك. موت كيزيس لن يعني شيئًا!”
كلما اقتربت ماير، بدت أصغر. لم تكن الملكة الشابة اللامعة التي تقف بجانب كيزيس في قاعة العرش، لكنها لم تكن تمامًا الشيخة الذابلة التي قابلتها لأول مرة. بدت عجوزًا -قديمة- لكنها غير مروضة. في تلك اللحظة، ربما لأول مرة، فهمت حقًا لماذا كنا نعتبر الأزوراس طواغيتًا علينا.
رغم أن اللحظة كانت مشحونة، وكأننا على حافة سكين، لم أستطع إيقاف ما كنت أفعله. انفتح المستوى الأول بأكمله من المقابر الأثيرية عبر البوابة التي يبلغ ارتفاعها الآن مائتي قدم. باستخدام الأثير للتحكم في وفرة مانا سمة الأرض، سحبتُ حجارة من الجبال نفسها، ولففت حول الجانب المفتوح من تايغرين كايلوم وملأته، مشكلًا قاعدة الصرح. من بعيد جدًا، استطعتُ سماع صرخات وتوسلات أولئك الذين شردتهم للتو.
أما أفيتوس فأصعب. احتجت إلى سيلفي لإبطاء اندفاعها نحو هذا العالم، لأن التشكيل كان دقيقًا. حددت حسابات جي-إي شريطًا من الأرض بعرض مائة وأربعة وأربعين ميلًا بالضبط. بالفعل، تجاوزت الحافة جبال ناب باسيليسك بكثير وكانت تقترب.
أما عن الشواطئ الشرقية لألاكريا، فلم يكن أمامي سوى لحظات لأجعل المجمع ينقسم إلى ثاني ثلاثة تشكيلات مطلوبة لإنقاذ أفيتوس.
‘أشعر بضعف شديد… يا رجل،’ فكّر ريجيس. لم يكن أمامه هو وسيلفي خيار سوى التعايش داخل شبكة مناورة الملك، مع أنهما اضطرا إلى الحفاظ على مسافة ذهنية بينهم وإلا خاطرا بانهيار عقولهما وهما يحاولان متابعة جميع أفكاري دفعة واحدة.
كانت ماير أمامنا مباشرة الآن، مع أنني لم ألحظ حركتها. تعلقت عيناها بحالتي -الدم، والطيران المرتجف، والأثير الصغير الذي يدعم هيئتي الجسدية. كانت هذه هي اللحظة التي سأعرف فيها من هي حقًا، في النهاية. من ستختار أن تكون.
“أنت تقتل نفسك،” قالت بصوت أجش.
هل هذا ندم أم ارتياح في نبرتها؟ لم أستطع الجزم. “لن تكون… المرة الأولى،” خنقت نفسي.
رمقت عينيها تيسيا، ثم استقرت على سيلفي. “أنا آسفة يا ابنة ابنتي. أعرف.” أغمضت عينيها، وأطلقت نفسًا خافتًا. “أعرف.” أومأت
سيلفي، بعينيها الثابتتين اللامعتين، برأسها لجدتها إيماءة خفيفة، ثم عادت قوتها لتمتد، وهذه المرة لم تتحرك ماير لإيقافها. قاومت سيلفي عاصفة الأثير الهادرة التي أطلقتها للتو، وتمسكت بالرابط بيننا بقوة في ذهني، لا أشاركها أفكاري بل أضمها إلى وعيي، رابطي بالمسارات الأثيرية من خلال خطوة الحلكم وتكوينات أفيتوس والمقابر الأثيرية من خلال رونية الفضاء. من خلالي، وصلت قوتها إلى أبعد أركان العالمين، ومع أنها لم توقف الزمن، إلا أنها خففت من وطأة مروره، مانحةً إياي وقتًا لأُحوّل المعلومات الخام والحسابات إلى واقع ملموس.
مع مرور أول شريط من الأرض فوق الساحل، بحثت عن خط التماس الذي يُمثل
نقطة الانتقال التي أحتاجها. “عائلتي؟” سألتُ ماير وأنا أُركّز.
قالت، “آمنة،” بنبرة خشنة تحت وطأة إرهاقها. انتظرتُ المزيد، أردتُ أن أسأل المزيد، أن أطلب منها أن تشرح، لكن إجابتها المختصرة استغرقت كل وقتي قبل أن أجد ما أبحث عنه، وعاد تركيزي كله إلى أفيتوس. انقسمت الأرض التي تُحيط بالسماء، فلم تعد أفيتوس شريطًا واحدًا، بل شريطين، يتشكل الشريط الثاني بزاوية 36 درجة بالضبط وهي تتجه الآن نحو الجنوب الشرقي.
تطلبت حلقة ثانية طبقةً أخرى من الأثير الداعم، وتدفقًا جديدًا من الدمار وقداس الشفق. ضاقت الشبكة المتشابكة التي تُشكّل الآن مناورة الملك مع شدّة الضغط عليها في كل اتجاه.
انزلق ضيق الوقت القصير لسيلفي مجددًا وهي تأخذ قسطًا من الراحة.
بجانبي، تيسيا، لا تزال متشبثه بذراعي، ترهلت. هبط رأسها على كتفي المدرع بقوة شديدة، مما أدى إلى قطعها فوق الحاجب. كانت عيناها مشتتة؛ لم يبدو أنها لاحظت ذلك حتى. جذبتها بقوة أكبر إلى جانبي، غير متأكدٌ مما إذا كان بوسعها دعم نفسها. ‘تيس. تيسيا…؟’
“أنا… بخير.” كانت أفكارها تتسرب وبطيئة.
“الضغط على أنظمتها الجسدية هائل،” قاطعت جي-آي. “هذا الهيكل -ما أنا عليه الآن- لم يكن من المفترض أن يُحتجز في مسكن عضوي. كمية المعلومات تحرقها من الداخل.”
“قلت إنني بخير،” ردت تيسيا بسرعة، ورفعت رأسها عن كتفي ودفعت بعيدًا عني، على الرغم من أنها لم تطلق ذراعي تمامًا. كان جانبها الآن ملطخًا بدمائي -ودمائها.
“أنا بخير أيضًا، شكرًا لسؤالك،” قال ريجيس ساخرًا بما يعادل سعال الدم في ذهنه.
طفت ماير حولنا، وحاجباها مقبوضان قلقًا. “دعني أساعدكم.” رفعت يدها لتمنع أي جدال. “أفهم. الأمر لا يتعلق بالتحالف أو التسامح، بل بالبقاء. لقد دُفع أعظم ثمن لشراء مستقبل شعبي. لن أضيعه.”
لم تنتظر أي رد آخر. دارت المانا حول يدها المرفوعة، مشرقة وقوية
. استجابت نفحة من الأثير، والتأمت جروحنا ببطء.
ارتسمت حاجبا ماير أكثر، وانخفضت شفتاها في عبوس عميق من التركيز. تضخم المانا، لكن الأثير بالكاد تفاعل. أدركت أنها كانت تستنفذ كل تركيزها لمجرد شفاء أصغر جروحنا.
“ركزي على تيس،” قلتُ بصوت مرتجف. ترددت
، ثم حولت انتباهها بالكامل إلى تيسيا. خفّ الدم المتساقط من أنف تيس
، وخفّ تعبيرها قليلًا.
لكن عندما رحل عني ضغط الشفاء اللطيف فجأة، وجدت نفسي أختنق. نظرتُ من الأعلى، فرأيتُ عينيّ تتدحرجان إلى محجريهما. تضاعف ضغط عالم الأثير فجأةً، ثم تضاعف ثلاث مرات. بدأت الأقسام الأولى من الطابق الثاني من المقابر الأثيرية بالظهور عبر البوابة، وانفجر المبنى -وهو نُزُل من طابقين كان قائمًا على حافة فناء المدخل- وتحول إلى أنقاض. بالكاد تمكنتُ من حماية العشرات من الأشخاص الذين كانوا محشورين في الداخل من الانهيار، ولففتهم بالأثير.
تصدّعت الأرض تحتهم بينما زحفت كرومٌ ضخمة خضراء زمردية اللون لتقتلعهم من الهواء. ارتجفت تيسيا من جهد الاستحضار، وإرادتها الوحشية تغلي في داخلها. في إحدى زوايا شبكة خيوط الأفكار المنسوجة، أدركتُ أنه بينما كنتُ أسحب من المقابر الأثيرية، سمح ذلك للنهر الأثيري بمزيد من الحرية للالتواء والانعطاف، مزيلًا الحواف المجازية كما لو أن حيواناتٍ تحفر جحورًا تُهين شاطئ نهر حقيقي. انحنيتُ نحو الوزن غير المتوقع، لأستعيد توازني. تكيفت الحسابات المتدفقة إليّ من جي-آي في منتصف التيار لاستيعاب زيادة الضغط.
بات هناك وفرة من الأثير تتدفق الآن، تتدفق من البوابة وحول حواف أفيتوس، ولكن مثل النهر الأثيري، امتلك جاذبيته الخاصة، أقوى من أن أستغلها.
لا بد من وجود طريقة ما لتحييده، لكنني كنت قد وصلت إلى نهاية قدرتي على التركيز والتفكير في المعلومات الجديدة.
“آرثر.”
نظرتُ حولي في حيرة. الجدة سيلفيا؟ لكن لا، بالطبع لا. التقت عينا ماير،
وقد نسيت وجودها للحظة بينما كان عقلي مشدودًا إلى حافة الانهيار.
“أنت تجوعني،” قالت بهدوء لكن بقوة. “الأثير بالكاد يتفاعل معي. أنت تسيطر عليه كله. أنت و… أي شيء آخر هنا، معنا.
“القوة تحاول أن تأتي من خلال أفيتوس.”
لقد فهمتُ. ما تبقى من الأثير الجوي القليل كان قد استُخدم في الثواني الأولى من هذا الحدث، حتى قبل أن أكسر الطبقة الخارجية من نواتي لأُطلق الأثير المُخزّن. لم يتبقَّ سوى الأثير الخاص بي، مُوَجَّهًا عبر الرونيات ليؤثر على المقابر الأثيرية وأفيتوس. بالطبع، لم تكن ماير أكثر قدرة مني على الوصول إلى الأثير المُحيط بأطراف العالم.
“لكن لا يزال بإمكاني مساعدتك يا آرثر.” أشرقت عيناها، يأس وندم يمتزج بشعور
بالخسارة والقبول.
ثم بدأت عيناها في النمو، والوجه من حولها، يتسع ويستطيل. طالت رقبتها، وتمدد جسدها بسرعة، وأصبحت أثوابها المتدفقة قشورًا عريضة بيضاء ناصعة. امتدت الأجنحة خلفها، تنبض ببطء وتدور مانا الهواء. لمعت الأحرف الرونية الذهبية على وجهها التنيني، وعلى رقبتها الطويلة، وفوق أجنحتها العريضة.
حدقت في عينيها الأرجوانيتين الآن. أشرقت العلامات الذهبية حولهما، ثم خفتت واختفت تمامًا في النهاية. انطلق لسانها، مخترقًا درعي ولحمي وعظامي. على عكس سيلفيا، لم تكن قادرة على اختراق نواتي بنفسها. بدلًا من ذلك، كان عليّ أن أسمح لها بالدخول. تجمدت في لحظة من الرعب الذي أتذكره، كدت أرفضها.
ثم… وصلت مرة أخرى إلى قبضة من الأثير حول نواتي. عندما هدد عالم الأثير بالانفجار وهدد جسدي بالفشل، كنت بحاجة إلى المزيد من الأثير. كان هناك أقل منه في الطبقة الثالثة من الرابعة، ولكن…
قبضت على نفسي، وتحطمت الطبقة الخارجية من النواة. لم تلتئم جروح المرة الماضية، لذلك لم يكن الأثير بحاجة إلى اتباع قنواتي، بل اتبع الجروح الممزقة التي تمزق جسدي.
اخترق لسان ماير قلبي أخيرًا، كما فعلت سيلفيا منذ زمن بعيد. ارتفعت خيوط من الدخان الذهبي من صدري، متلألئة بشرارات الجمشت. عندما انسحبت، فُقد دم الجرح في بحر اللون الأحمر المتشبث بي ويتسرب بين قشور درعي الأثري. بينما بدت سيلفيا متألمة وضعيفة في أعقاب نقل إرادتها، بدت ماير بطريقة ما أكثر روعة. تلاشى اللون الذهبي، وكذلك اللون الأرجواني اللامع لقزحيتيها، لكن التنينة الييضاء العجوز التي تحوم أمامي الآن لم تكن أقل وحشية وقوة.
“أتمنى أن تنعم بالحكمة لاستخدام هذه البصيرة أفضل مما استخدمتُها أنا في آلاف السنين، يا آرثر ليوين.”
شعرتُ ببريق إرادتها الذهبي يستقر داخل الطبقتين المتبقيتين من نواتي الأثيرية، دافئًا ومريحًا.
“جدتي…”
لم تكن الكلمات هذه المرة كلماتي، بل كلمات سيلفي. ومع ذلك، في هذه اللحظة، حملت نفس الطاقة اليائسة التي شعرتُ بها وأنا في الرابعة من عمري أشاهد سيلفيا تضحي بنفسها لإنقاذي من كاديل دون أن أفهم.
لم تكن هناك كلمات أخرى. ابتعدت ماير وحلقت إلى قاعدة المقابر الأثيرية التي لا تزال تتشكل. كنتُ أعرف بلا شك أنها تبحث عن كيزيس. مددتُ يدي نحو بريق إرادتها الذهبي، وفعّلته.
غمرتني موجة من الطاقة، وظهرت رونية ذهبية على درعي ورقبتي، متشابكة مع رونية قلب العالم.
أحسستُ بقوى الحياة لدى رفاقي، وماير نفسها، والآلاف القليلة من الأشخاص الذين جُلبوا بالفعل من المقابر الأثيرية، مُكدّسين كقطع الووغارت في الطبقة المُشكّلة حديثًا من المقابر الأثيرية المادية. مع انعطافٍ في الفضاء، فتحت الطريق إلى ما كان في السابق مخزنًا للآثار المقدسة لأغرونا.
تراكم جزء كبير من الطاقة المُطلقة من طبقتي الأساسية الثالثة بداخلي وحولي، مع أن معظمها قد تدفق عبر المسارات الأثيرية لدعم رونياتي في الأعلى والأسفل. جذبتُ تلك الطاقة إلى داخلي، وضبطتها لشفائي.
كانت قوة حياة تيسيا ضعيفة، ونبضها بطيء، على الرغم من قوة المانا لديها. مع تفعيل إرادة ماير، شعرتُ بالمسافة بيننا، وحرارة قوة حياتها، وعندما دفعتُها بالأثير، تدفقت إلى تيسيا. أضاءت جروحها كما لو أنها سُحبت في النار خلف…
عيون. وجهتُ الأثير إليهما -إلى أعصابها ومشابكها العصبية، وإلى نسيج عقلها المليء بالتمزقات الدقيقة.
تنفستُ الصعداء على الفور.
كانت المباني والشوارع تندفع من البوابة الآن. باستخدام رونية الفضاء، أعدتُ بناء المنطقة الشبيهة بالمدينة داخل وحول بقايا تايغرين كايلوم. تلاعب الأثير بالمانا لاستحضار وتشكيل الحجر، ونحت الدمار ما هو غير ضروري أو غير صالح للاستخدام، وأعاد قداس الشفق بناء ما تبقى، وأعاد الفضاء تشكيل الواقع المادي للمنطقة.
مستشعرًا اقتراب نقطة الترسيم التالية في أفيتوس، استعدتُ لتوسيع عقلي المكتنز أكثر. مدت سيلفي يدها بفن الأيفوم، متحديةً إبطاء الوقت، مانحةً إياي لحظةً لأستعد. سيُنزع شريط ثالث من الأرض عن الآخرين، يمتد هذا الشريط من الجرح بزاوية ستة وثلاثين درجة شمال الأول. امتدت قوتي الآن عبر العالم حيث اقترب الشريط الأول من الأرض من ديكاثين. ومع
انغماس ذهني في المسارات الأثيرية عبر خطوة الحاكم، شعرت مرة أخرى وكأنني أرى القارتين بالكامل.
رأيت سيث ومايلا بين الحشود في بلدة ميرين، لم يعودا يتعرضان للقصف من أنقاض أفيتوس وبدلًا من ذلك يشاهدان في رهبة بينما تمتد الأرض عبر السماء فوقها؛ الجلايدرز محاطون بمجلسهم على شرفة قصر إيتيستين، ويشاهدون جميعًا بخوف بينما تلقي أفيتوس بالظل على المدينة؛ إيفاسير، العملاق الشاهق الذي كان يحرس الموقد، يذبح وحش مانا أفيتوس بينما كان فينسنت وتابيثا وليليا هيلستيا يشاهدون في رعب، وقد انهار نصف منزلهم خلفهم؛ هيلين ودوردن يقودان الهجوم ضد وحش ضخم مقرن من النار والحجر الداكن يقترب من بلاك بيند؛ الجدار، سقط، مدفونًا تحت الجبل؛ أناكاشا من عشيرة ماتالي تسحب والدها أنكور، الذي فقد وعيه، بعيدًا عن مبنى مهدم؛ وسادات الأزوراس العظماء، كلٌّ منهم يقف في قلب مملكته.
لكنني لم أرَ أمي ولا أختي. كل ما كنتُ أثق به هو صدق ماير، وأنهما في مأمنٍ تام.
أُخرج الطابق الثاني تقريبًا من المقابر الأثيرية من عالم الأثير، الذي أصبح الآن بمثابة قرية تُحيط بقاعدة المبنى الجديد الذي بدأ بالظهور تدريجيًا. انتشرت في ذهني خريطة للمقابر الأثيرية كما رآها جي-آي، إلى جانب مخطط يُمكّننا من إنقاذ الجزء المهم من كل منطقة، مما يضمن عدم ضياع المعرفة الأثيرية التي ساهمت في إنشائها.
والأهم من ذلك، وضع الأسس التي سيرتكز عليها كل ما آمل تحقيقه قريبًا.
كان آخر مبنى خرج من المستوى الثاني هو عقار غراهنبل، المزدحم الآن بمن افترضت أنهم لاجئون مختبئون. مع بقاء إرادة ماير نشطة، شعرت بكل حياة بداخله عن كثب، كما لو كانت أصابعي على نبضهم. كنت لا أزال أطوي العقار إلى مدينة عندما هز انهيار المساحة التي كانت تحتوي على المستوى الثاني، البوابة. اندفع النهر الأثيري، المتعرج عبر الفراغ الأثيري على الجانب الآخر من البوابة، مرة أخرى، وارتجف الواقع نفسه.
وبينما يهزني الاهتزاز، ظهرت خيوط ذهبية في رؤيتي مرة أخرى. تبعتها حواسي إلى حيث التقت، صورة ظلية مصنوعة بالكامل من خيوط القدر الملفوفة بإحكام والمخبأة في محيط الشمس، مرئية بين شريطين من شرائط الأرض المتوسعة باستمرار أعلاه.
كأنه يستشعر انتباهي، دوى صوت القدر في رأسي. ’غراي. آرثر ليوين. لقد جئتُ لأشكرك. لقد حقق أداؤك كل التوقعات العملية.’
شعرتُ بنفسي أبتعد أكثر فأكثر عن جوهر ذاتي، ورؤيتي -التي لا تزال تنظر إلى الأسفل من الأعلى- تطفو بعيدًا عن جسدي وحضور رفاقي. ‘إنه أنت. النهر. أنت تدفع من الجانب الآخر.’ شعرتُ بغضبي كشيء بارد وبعيد يتسلل عبر طبقات مناورة الملك. ‘لماذا؟ كان بيننا اتفاق.’
‘رؤيتك للمستقبل كانت شيئًا رائعًا، لكنها لا يمكن أن تنتهي إلا بهذه الطريقة. مع أن أجغرونا هو من بدأ العملية، فقد أكملتَ عملية ثقب الحاجز تمامًا، والآن قد يخرج الأثير مرة أخرى إلى العالم لينتشر ويستقر، مُطلقًا الضغط القسري الطويل. ضرورة الإنتروبيا.’
‘على حساب هذا العالم بأكمله.’ أردتُ أن أصرخ بالكلمات، لكن العاطفة اللازمة لم تكن
موجودة.
‘كل العوالم تموت. كل النجوم تحترق.’ سرى همهمة كشط عبر الخيوط الذهبية. ‘يمكنك أن ترتاح وتستسلم الآن يا آرثر. لقد فعلتَ كل ما هو مطلوب منك. إذا كانت ميولك الفانية تتطلب ذلك، ففكر في أنك ربما أنقذت الكون كله المعروف والمجهول على حساب عالم صغير واحد.’
مزق الأثير حواف البوابة، ممزقًا إياها أكثر، وغمر حدود أفيتوس، يهزها كزلزال.
‘عالم صغير واحد؟’ حدقت في شكل خيوط ذهبية. ‘لكنك من هذا العالم. كل تلك العقول والأصوات التي تتحد لتكوينك، هي من هذا العالم. كل من وُجد ليصبح جزءًا منك. بالتأكيد لا تزال هناك رغبة في حمايته؟’
لم يكن هناك أي توقف. لا تلميح إلى أن كلماتي قد أثارت بعض التفكير داخل
الكيان اللاإنساني. فقط… ‘لا.’
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com
______
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com
اعذروا أي خطأ قد تجدونه في هذا الفصل؛ هاتفي خربان وبترجم من مكان ثاني ومش معتاد عليه أبدًا..
عمومًا لا تنسوا دعاء كل مرة!
الفصل 526 – صعود المقابر الأثيرية منظور: آرثر ليوين تمزقت قنواتي، ودمى جلدي. تكسرت عظامي، وغلى دمي. ومع ذلك، ظللت مركزًا بكامل ذهني على المهمة، محصورًا بأمان خارج ذاتي. أعلم أن الألم موجود، لكن هذه اللحظة كانت بالغة الأهمية، فلا يسعني فقدان نفسي أمام شيء تافه كعذاب انهيار جسدي. خيط واحد من وعيي يحفظ كل ذلك الألم على مسافة آمنة، بينما حام عقلي في الأعلى، يراقب تسونامي الأثير وهو ينسكب في الغلاف الجوي. كافحت طبقات نواتي الثلاث، اللامعة والضعيفة كطرف منهك، للسيطرة على فيض الأثير المنبعث من كسر طبقة نواتي الرابعة. رفرفت البوابات المنغرسة في النواة، التي تربطها بقنواتي، عاجزة، ودُمّرت القنوات تمامًا. تطلب الأمر كامل وعيي المعزز بمناورة الملك، باستثناء ذلك الخيط الوحيد، لأسيطر على كل هذه القوة. به، مددت يدي إلى الأسفل والأعلى، عملت جميع رونياتي بتناغم. بدأت المعلومات تتدفق إلى ذهني من جي-آي عبر الاتصال المُشكَّل حديثًا مع تيسيا. رأيتُ شكل أفيتوس والمقابر الأثيرية، وفهمتُ الفيزياء اللازمة، والديناميكا الحرارية، والتمدد والانكماش المكاني، ونسيج الزمن، ودفء الحياة، وهي كلها ضرورية. في الأعلى، اتسع الجرح بسرعة، وزادت وتيرة نزول أفيتوس بشكل ملحوظ. بدأت البوابة في الأسفل تتكشف، مُسكِبةً محتويات المقابر الأثيرية المتصلة بينما جُرِّت المنطقة الأولى إلى العالم المادي حيث طفت داخل الفراغ. ارتجفت البوابة تحت ضغط قوتين متعارضتين: فيضان الأثير المُنبعث من تضحيتي بطبقة أساسية، والنهر الأثيري الذي يُهدد باجتياح ضفتيه على الجانب الآخر. انهار فناء، وهو جزء من المنطقة الأولى للمقابر الأثيرية، وانكسر عندما سحبته الجاذبية إلى أسفل، ثم استدار واندمج مرة أخرى، مُكوِّنًا أشكالًا جديدة. أضاء الدمار مع بقية رونياتي عندما ربط ريجيس سيطرته على الرون نفسه ببصيرتي. رقصت تيارات من اللهب البنفسجي على طول المسارات الأثيرية وداخل الفضاء المتغير. فتحت رونية الفضاء تايغرين كايلم كبيت دمية طفل بينما استقرت الهياكل التي تشكلت حديثًا من المقابر الأثرية في التجاويف المفتوحة. أحرق الدمار أي مادة غير ضرورية إلى لا شيء. تقلص الفضاء وتوسع حسب الضرورة. ربطت المسارات الأثيرية الجديد والقديم معًا. ارتجف الوقت في قفزات متوقفة بينما تكيفت المقابر الأثرية مع مرور الوقت الحقيقي. خرجت الشوارع من البوابة بشرائط، تظهر وتعاد هيكلتها. انهارت المباني وأعيد تشكيلها تحت الضغوط المتعارضة لرونية الفضاء وقداس الشفق. قلّم الدمار باستمرار ما لم أستطع استخدامه، بينما احتفظتُ بشكل كل شيء في ذهني كمخطط رباعي الأبعاد. في خضمّ فوضى المقابر الأثيرية التي تُفتح وتُعاد صياغتها كقارب تجديف من الورق، صرخ الناس -كل أولئك الذين كانوا محصورين فيها. العشرات في البداية، ثم المئات، يتمسكون بأيّ شيء صلب يستطيعون حمله، كلٌّ منها مُغلّفٌ بغطاءٍ من المكان والزمان. جاهدتُ في مناورة الملك للحد المطلوب من التركيز. وبينما كنتُ أنظر من الأعلى، رأيتُ نفسي أسعل دمًا. لُطخ جسدي الممزق باللون القرمزي، ويدا تيسيا زلقتان بالدم الذي تسرب عبر بشرتي. اختلطت دموعها بالدم الذي يسيل بحرية من أنفها. شدّدتُ تركيزي، وجذبتُ الأغصان معًا بينما أكافح لإعادة امتصاص أثيري لتعزيز الرونيات بشكل أكبر. لَسهُل الأمر لو امتلكنا الوقت لتطهير المقابر الأثيرية تمامًا، وإغلاق جميع الصعود، وإزالة الأشخاص من المستويين الأولين. بدلاً من ذلك، كانت المقابر الأثيرية مليئة باللاجئين الهاربين من هجوم أغرونا الأخير. ومثل أي مرحلة أخرى من هذه العملية، اضطررتُ إلى التفكير في أعلى فرصة للنجاح. سيكون إنقاذ سكان المقابر الأثيرية مثل تمرير حبات البازلاء عبر شفرات درّاس دوارة. كان الوقت والصبر والطاقة المطلوبة تضحية لم أعرف ثمنها بعد، تمامًا مثل أفيتوس. قد تكون محاولة إنقاذ الجميع في وقت واحد هي السبب الحقيقي لعدم إنقاذي أحدًا على الإطلاق… كان هناك طقطقة مدوية من الأعلى. لقد دُفع الكثير من أفيتوس بسرعة كبيرة من خلال الجرح دون دعم بينما كنت أركز على المقابر الأثيرية. عزلتني مناورة الملك عن الألم والخوف. ازدهرت رؤية جديدة في الدم، تنمو مثل الزهور على طول الفروع المتوسعة. كان هذا هو، غرض الرونية. تضحية حقيقية. كانت الرونية، حتى الآن، تحت السيطرة بسبب رغبتي في الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من نفسي. لكن لم أستطع فعل ذلك هنا، الآن. لا يمكن أن يكون ثمن إنقاذ المقابر الأثيرية، وأفيتوس، والأزوراس، والألاكريان، إلا أنا. لقد بدأتُ بالفعل. كان جسدي يُنتزع من الداخل. سحب عقلي من القشرة. لمعت نواتي وخَشُنَت، حتى ثلاث طبقات حول نواة المانا العضوية المكسورة. عليّ فعل المزيد. أن أعزل نفسي تمامًا. وبينما يتجلى الفهم في ذهني كما تتجلى المقابر الأثيرية من البوابة، انقسم كل فرع من فروع مناورة الملك إلى فرع، ثم نما فرع جديد آخر، وتلاشى كل الألم والقلق، بعد أن تلاشى، في ضجيج خلفي لا معنى له. توسع عقلي على طول الفروع، حاملًا في داخله كامل المسارات الأثيرية التي تربط كل نقطة ببعضها، سواء تلك المستقرة في نسيج هذا العالم أو تلك التي تتشكل الآن كخلايا عصبية عبر القارة المتساقطة في الأعلى. بدا العالم وكأنه يتنفس، وفي تلك الرياح الدافئة، رأيت الخيوط الذهبية التي تربط كل شيء معًا. كنت في المركز، إذ التفت خيوط لا تُحصى حولي وتمتد بعيدًا، إلى كل إلف وقزم وإنسان وألاكريان وأزوراس في كلا العالمين. ضاع جسدي داخل شكل بشري من خيوط ذهبية متوهجة ملفوفة بإحكام. انقطع النفس، واختفت الخيوط من الرؤية. في السماء، لم تعد أفيتوس تنهار، بل أصبحت الآن مرتكزة على حلقة من الأثير الخالص. الأرض، مثل المقابر الأثيرية، تكثفت وأُعيد تشكيلها وأنا أُشكّلها كطينٍ كثيف. دار الدمار في مسارات الأثير، يتسابق على سطحها ويستهلكها بدقة متناهية. أميالٌ تلو أميال من أفيتوس سقطت من خلال الجرح، بينما انهار جيب الفضاء المتوسع الذي لطالما وُجدت فيه. لم أملك سوى ثوانٍ لأعتاد على العملية قبل أن تتغير مجددًا، وكل خطوة للأمام ستزيد العملية تعقيدًا. قالت سيلفي بحزم، وقد شعرت بتوتري، “هيا بنا نساعد.” ومثل تيسيا، لُطخت يداها بدمي. فتحت فمي لأتحدث، لكن دون جدوى. ‘أحتاج فقط… إلى بعض الوقت.’ أومأت سيلفي برأسها. أغمضت عينيها بإحكام. وامتدت القوة والأثير، على هيئة فنونها السحرية، عبر وجه العالم، مُبطئةً الزمن إلى حدّ التنقيط. صدّت قوة مُعاكسة. شهقت سيلفي وهي تفقد تعويذتها، التي تحطمت، مُرسلةً رعشة مُقززة في عمودي الفقري. “ماذا؟” سألت وهي لاهثة. هناك شيءٌ ما قادم. عاصفة رعدية من المانا والأثير، بالكاد تُكبح. تنزل من أفيتوس. “ماير،” قلت، والاسم خشن في حلقي. كان كل أثيري تقريبًا خارج جسدي، مُشكلًا الأيدي الميتافيزيقية التي استخدمتها لتشكيل أفيتوس في الأعلى والمقابر الأثيرية في الأسفل. لهذا السبب لم أكن أُشفى. سحب ريجيس ما يحتاجه لتفعيل الدمار وتمكيني من توجيهه، لكنني لم أحتفظ إلا بما يكفي لإبقاء جسدي المنهك حيًا. الآن، جاهدتُ لأستعيد ما يكفي للدفاع عنا. إذا هاجمت ماير… “آرثر لوين،” دوى صوتها في الجو، عميقًا ورنانًا ومليئًا بالألم. “لقد شعرتُ بموت كيزيس، لكن لا بد أن أعرف… كيف مات؟ هل كان أغرونا؟” حملت كلماتها نبرة حادة لكنها متوسلة. نظرتُ إلى النار المشتعلة خلف عينيها، غير قادر على الخوف. “لقد قتلتُه.” كان هناك نفس طويل، كعاصفة في مقدمة العاصفة، قبل أن تجيب بصوت مرتجف. “لقد جلبناك بيننا. عاملناك كما لو كنت واحدًا منا. درّبناك وربيناك. دعوناك إلى أقدس أماكننا. جعلناك واحدًا منا. وأنتَ تُكافئنا بقتل الرجل الذي حافظ على هذا العالم آمنًا لفترة طويلة؟” ملاحظًا فكرتُ، الجدير بالذكر أنها لم تسأل عن السبب. أكملت ماير هبوطها، وهي ترفرف كورقة في مهب الريح. كان وجهها كسحابة رعدية، وعيناها كبرقين. “جدتي!” صرخت سيلفي، وهي تحلق بيني وبين ماير. “أنتِ تعلمين أنه لم يكن لديه خيار. أنتِ تعرفين أكثر من أي شخص آخر القرارات التي اتخذها كيزيس، والتي كان سيتخذها مجددًا. لكن إن لم تسمحي لنا بإنهاء ما نفعله، فسيموت كل من بقي هنا، بمن فيهم جميع أفراد شعبك. موت كيزيس لن يعني شيئًا!” كلما اقتربت ماير، بدت أصغر. لم تكن الملكة الشابة اللامعة التي تقف بجانب كيزيس في قاعة العرش، لكنها لم تكن تمامًا الشيخة الذابلة التي قابلتها لأول مرة. بدت عجوزًا -قديمة- لكنها غير مروضة. في تلك اللحظة، ربما لأول مرة، فهمت حقًا لماذا كنا نعتبر الأزوراس طواغيتًا علينا. رغم أن اللحظة كانت مشحونة، وكأننا على حافة سكين، لم أستطع إيقاف ما كنت أفعله. انفتح المستوى الأول بأكمله من المقابر الأثيرية عبر البوابة التي يبلغ ارتفاعها الآن مائتي قدم. باستخدام الأثير للتحكم في وفرة مانا سمة الأرض، سحبتُ حجارة من الجبال نفسها، ولففت حول الجانب المفتوح من تايغرين كايلوم وملأته، مشكلًا قاعدة الصرح. من بعيد جدًا، استطعتُ سماع صرخات وتوسلات أولئك الذين شردتهم للتو. أما أفيتوس فأصعب. احتجت إلى سيلفي لإبطاء اندفاعها نحو هذا العالم، لأن التشكيل كان دقيقًا. حددت حسابات جي-إي شريطًا من الأرض بعرض مائة وأربعة وأربعين ميلًا بالضبط. بالفعل، تجاوزت الحافة جبال ناب باسيليسك بكثير وكانت تقترب. أما عن الشواطئ الشرقية لألاكريا، فلم يكن أمامي سوى لحظات لأجعل المجمع ينقسم إلى ثاني ثلاثة تشكيلات مطلوبة لإنقاذ أفيتوس. ‘أشعر بضعف شديد… يا رجل،’ فكّر ريجيس. لم يكن أمامه هو وسيلفي خيار سوى التعايش داخل شبكة مناورة الملك، مع أنهما اضطرا إلى الحفاظ على مسافة ذهنية بينهم وإلا خاطرا بانهيار عقولهما وهما يحاولان متابعة جميع أفكاري دفعة واحدة. كانت ماير أمامنا مباشرة الآن، مع أنني لم ألحظ حركتها. تعلقت عيناها بحالتي -الدم، والطيران المرتجف، والأثير الصغير الذي يدعم هيئتي الجسدية. كانت هذه هي اللحظة التي سأعرف فيها من هي حقًا، في النهاية. من ستختار أن تكون. “أنت تقتل نفسك،” قالت بصوت أجش. هل هذا ندم أم ارتياح في نبرتها؟ لم أستطع الجزم. “لن تكون… المرة الأولى،” خنقت نفسي. رمقت عينيها تيسيا، ثم استقرت على سيلفي. “أنا آسفة يا ابنة ابنتي. أعرف.” أغمضت عينيها، وأطلقت نفسًا خافتًا. “أعرف.” أومأت سيلفي، بعينيها الثابتتين اللامعتين، برأسها لجدتها إيماءة خفيفة، ثم عادت قوتها لتمتد، وهذه المرة لم تتحرك ماير لإيقافها. قاومت سيلفي عاصفة الأثير الهادرة التي أطلقتها للتو، وتمسكت بالرابط بيننا بقوة في ذهني، لا أشاركها أفكاري بل أضمها إلى وعيي، رابطي بالمسارات الأثيرية من خلال خطوة الحلكم وتكوينات أفيتوس والمقابر الأثيرية من خلال رونية الفضاء. من خلالي، وصلت قوتها إلى أبعد أركان العالمين، ومع أنها لم توقف الزمن، إلا أنها خففت من وطأة مروره، مانحةً إياي وقتًا لأُحوّل المعلومات الخام والحسابات إلى واقع ملموس. مع مرور أول شريط من الأرض فوق الساحل، بحثت عن خط التماس الذي يُمثل نقطة الانتقال التي أحتاجها. “عائلتي؟” سألتُ ماير وأنا أُركّز. قالت، “آمنة،” بنبرة خشنة تحت وطأة إرهاقها. انتظرتُ المزيد، أردتُ أن أسأل المزيد، أن أطلب منها أن تشرح، لكن إجابتها المختصرة استغرقت كل وقتي قبل أن أجد ما أبحث عنه، وعاد تركيزي كله إلى أفيتوس. انقسمت الأرض التي تُحيط بالسماء، فلم تعد أفيتوس شريطًا واحدًا، بل شريطين، يتشكل الشريط الثاني بزاوية 36 درجة بالضبط وهي تتجه الآن نحو الجنوب الشرقي. تطلبت حلقة ثانية طبقةً أخرى من الأثير الداعم، وتدفقًا جديدًا من الدمار وقداس الشفق. ضاقت الشبكة المتشابكة التي تُشكّل الآن مناورة الملك مع شدّة الضغط عليها في كل اتجاه. انزلق ضيق الوقت القصير لسيلفي مجددًا وهي تأخذ قسطًا من الراحة. بجانبي، تيسيا، لا تزال متشبثه بذراعي، ترهلت. هبط رأسها على كتفي المدرع بقوة شديدة، مما أدى إلى قطعها فوق الحاجب. كانت عيناها مشتتة؛ لم يبدو أنها لاحظت ذلك حتى. جذبتها بقوة أكبر إلى جانبي، غير متأكدٌ مما إذا كان بوسعها دعم نفسها. ‘تيس. تيسيا…؟’ “أنا… بخير.” كانت أفكارها تتسرب وبطيئة. “الضغط على أنظمتها الجسدية هائل،” قاطعت جي-آي. “هذا الهيكل -ما أنا عليه الآن- لم يكن من المفترض أن يُحتجز في مسكن عضوي. كمية المعلومات تحرقها من الداخل.” “قلت إنني بخير،” ردت تيسيا بسرعة، ورفعت رأسها عن كتفي ودفعت بعيدًا عني، على الرغم من أنها لم تطلق ذراعي تمامًا. كان جانبها الآن ملطخًا بدمائي -ودمائها. “أنا بخير أيضًا، شكرًا لسؤالك،” قال ريجيس ساخرًا بما يعادل سعال الدم في ذهنه. طفت ماير حولنا، وحاجباها مقبوضان قلقًا. “دعني أساعدكم.” رفعت يدها لتمنع أي جدال. “أفهم. الأمر لا يتعلق بالتحالف أو التسامح، بل بالبقاء. لقد دُفع أعظم ثمن لشراء مستقبل شعبي. لن أضيعه.” لم تنتظر أي رد آخر. دارت المانا حول يدها المرفوعة، مشرقة وقوية . استجابت نفحة من الأثير، والتأمت جروحنا ببطء. ارتسمت حاجبا ماير أكثر، وانخفضت شفتاها في عبوس عميق من التركيز. تضخم المانا، لكن الأثير بالكاد تفاعل. أدركت أنها كانت تستنفذ كل تركيزها لمجرد شفاء أصغر جروحنا. “ركزي على تيس،” قلتُ بصوت مرتجف. ترددت ، ثم حولت انتباهها بالكامل إلى تيسيا. خفّ الدم المتساقط من أنف تيس ، وخفّ تعبيرها قليلًا. لكن عندما رحل عني ضغط الشفاء اللطيف فجأة، وجدت نفسي أختنق. نظرتُ من الأعلى، فرأيتُ عينيّ تتدحرجان إلى محجريهما. تضاعف ضغط عالم الأثير فجأةً، ثم تضاعف ثلاث مرات. بدأت الأقسام الأولى من الطابق الثاني من المقابر الأثيرية بالظهور عبر البوابة، وانفجر المبنى -وهو نُزُل من طابقين كان قائمًا على حافة فناء المدخل- وتحول إلى أنقاض. بالكاد تمكنتُ من حماية العشرات من الأشخاص الذين كانوا محشورين في الداخل من الانهيار، ولففتهم بالأثير. تصدّعت الأرض تحتهم بينما زحفت كرومٌ ضخمة خضراء زمردية اللون لتقتلعهم من الهواء. ارتجفت تيسيا من جهد الاستحضار، وإرادتها الوحشية تغلي في داخلها. في إحدى زوايا شبكة خيوط الأفكار المنسوجة، أدركتُ أنه بينما كنتُ أسحب من المقابر الأثيرية، سمح ذلك للنهر الأثيري بمزيد من الحرية للالتواء والانعطاف، مزيلًا الحواف المجازية كما لو أن حيواناتٍ تحفر جحورًا تُهين شاطئ نهر حقيقي. انحنيتُ نحو الوزن غير المتوقع، لأستعيد توازني. تكيفت الحسابات المتدفقة إليّ من جي-آي في منتصف التيار لاستيعاب زيادة الضغط. بات هناك وفرة من الأثير تتدفق الآن، تتدفق من البوابة وحول حواف أفيتوس، ولكن مثل النهر الأثيري، امتلك جاذبيته الخاصة، أقوى من أن أستغلها. لا بد من وجود طريقة ما لتحييده، لكنني كنت قد وصلت إلى نهاية قدرتي على التركيز والتفكير في المعلومات الجديدة. “آرثر.” نظرتُ حولي في حيرة. الجدة سيلفيا؟ لكن لا، بالطبع لا. التقت عينا ماير، وقد نسيت وجودها للحظة بينما كان عقلي مشدودًا إلى حافة الانهيار. “أنت تجوعني،” قالت بهدوء لكن بقوة. “الأثير بالكاد يتفاعل معي. أنت تسيطر عليه كله. أنت و… أي شيء آخر هنا، معنا. “القوة تحاول أن تأتي من خلال أفيتوس.” لقد فهمتُ. ما تبقى من الأثير الجوي القليل كان قد استُخدم في الثواني الأولى من هذا الحدث، حتى قبل أن أكسر الطبقة الخارجية من نواتي لأُطلق الأثير المُخزّن. لم يتبقَّ سوى الأثير الخاص بي، مُوَجَّهًا عبر الرونيات ليؤثر على المقابر الأثيرية وأفيتوس. بالطبع، لم تكن ماير أكثر قدرة مني على الوصول إلى الأثير المُحيط بأطراف العالم. “لكن لا يزال بإمكاني مساعدتك يا آرثر.” أشرقت عيناها، يأس وندم يمتزج بشعور بالخسارة والقبول. ثم بدأت عيناها في النمو، والوجه من حولها، يتسع ويستطيل. طالت رقبتها، وتمدد جسدها بسرعة، وأصبحت أثوابها المتدفقة قشورًا عريضة بيضاء ناصعة. امتدت الأجنحة خلفها، تنبض ببطء وتدور مانا الهواء. لمعت الأحرف الرونية الذهبية على وجهها التنيني، وعلى رقبتها الطويلة، وفوق أجنحتها العريضة. حدقت في عينيها الأرجوانيتين الآن. أشرقت العلامات الذهبية حولهما، ثم خفتت واختفت تمامًا في النهاية. انطلق لسانها، مخترقًا درعي ولحمي وعظامي. على عكس سيلفيا، لم تكن قادرة على اختراق نواتي بنفسها. بدلًا من ذلك، كان عليّ أن أسمح لها بالدخول. تجمدت في لحظة من الرعب الذي أتذكره، كدت أرفضها. ثم… وصلت مرة أخرى إلى قبضة من الأثير حول نواتي. عندما هدد عالم الأثير بالانفجار وهدد جسدي بالفشل، كنت بحاجة إلى المزيد من الأثير. كان هناك أقل منه في الطبقة الثالثة من الرابعة، ولكن… قبضت على نفسي، وتحطمت الطبقة الخارجية من النواة. لم تلتئم جروح المرة الماضية، لذلك لم يكن الأثير بحاجة إلى اتباع قنواتي، بل اتبع الجروح الممزقة التي تمزق جسدي. اخترق لسان ماير قلبي أخيرًا، كما فعلت سيلفيا منذ زمن بعيد. ارتفعت خيوط من الدخان الذهبي من صدري، متلألئة بشرارات الجمشت. عندما انسحبت، فُقد دم الجرح في بحر اللون الأحمر المتشبث بي ويتسرب بين قشور درعي الأثري. بينما بدت سيلفيا متألمة وضعيفة في أعقاب نقل إرادتها، بدت ماير بطريقة ما أكثر روعة. تلاشى اللون الذهبي، وكذلك اللون الأرجواني اللامع لقزحيتيها، لكن التنينة الييضاء العجوز التي تحوم أمامي الآن لم تكن أقل وحشية وقوة. “أتمنى أن تنعم بالحكمة لاستخدام هذه البصيرة أفضل مما استخدمتُها أنا في آلاف السنين، يا آرثر ليوين.” شعرتُ ببريق إرادتها الذهبي يستقر داخل الطبقتين المتبقيتين من نواتي الأثيرية، دافئًا ومريحًا. “جدتي…” لم تكن الكلمات هذه المرة كلماتي، بل كلمات سيلفي. ومع ذلك، في هذه اللحظة، حملت نفس الطاقة اليائسة التي شعرتُ بها وأنا في الرابعة من عمري أشاهد سيلفيا تضحي بنفسها لإنقاذي من كاديل دون أن أفهم. لم تكن هناك كلمات أخرى. ابتعدت ماير وحلقت إلى قاعدة المقابر الأثيرية التي لا تزال تتشكل. كنتُ أعرف بلا شك أنها تبحث عن كيزيس. مددتُ يدي نحو بريق إرادتها الذهبي، وفعّلته. غمرتني موجة من الطاقة، وظهرت رونية ذهبية على درعي ورقبتي، متشابكة مع رونية قلب العالم. أحسستُ بقوى الحياة لدى رفاقي، وماير نفسها، والآلاف القليلة من الأشخاص الذين جُلبوا بالفعل من المقابر الأثيرية، مُكدّسين كقطع الووغارت في الطبقة المُشكّلة حديثًا من المقابر الأثيرية المادية. مع انعطافٍ في الفضاء، فتحت الطريق إلى ما كان في السابق مخزنًا للآثار المقدسة لأغرونا. تراكم جزء كبير من الطاقة المُطلقة من طبقتي الأساسية الثالثة بداخلي وحولي، مع أن معظمها قد تدفق عبر المسارات الأثيرية لدعم رونياتي في الأعلى والأسفل. جذبتُ تلك الطاقة إلى داخلي، وضبطتها لشفائي. كانت قوة حياة تيسيا ضعيفة، ونبضها بطيء، على الرغم من قوة المانا لديها. مع تفعيل إرادة ماير، شعرتُ بالمسافة بيننا، وحرارة قوة حياتها، وعندما دفعتُها بالأثير، تدفقت إلى تيسيا. أضاءت جروحها كما لو أنها سُحبت في النار خلف… عيون. وجهتُ الأثير إليهما -إلى أعصابها ومشابكها العصبية، وإلى نسيج عقلها المليء بالتمزقات الدقيقة. تنفستُ الصعداء على الفور. كانت المباني والشوارع تندفع من البوابة الآن. باستخدام رونية الفضاء، أعدتُ بناء المنطقة الشبيهة بالمدينة داخل وحول بقايا تايغرين كايلوم. تلاعب الأثير بالمانا لاستحضار وتشكيل الحجر، ونحت الدمار ما هو غير ضروري أو غير صالح للاستخدام، وأعاد قداس الشفق بناء ما تبقى، وأعاد الفضاء تشكيل الواقع المادي للمنطقة. مستشعرًا اقتراب نقطة الترسيم التالية في أفيتوس، استعدتُ لتوسيع عقلي المكتنز أكثر. مدت سيلفي يدها بفن الأيفوم، متحديةً إبطاء الوقت، مانحةً إياي لحظةً لأستعد. سيُنزع شريط ثالث من الأرض عن الآخرين، يمتد هذا الشريط من الجرح بزاوية ستة وثلاثين درجة شمال الأول. امتدت قوتي الآن عبر العالم حيث اقترب الشريط الأول من الأرض من ديكاثين. ومع انغماس ذهني في المسارات الأثيرية عبر خطوة الحاكم، شعرت مرة أخرى وكأنني أرى القارتين بالكامل. رأيت سيث ومايلا بين الحشود في بلدة ميرين، لم يعودا يتعرضان للقصف من أنقاض أفيتوس وبدلًا من ذلك يشاهدان في رهبة بينما تمتد الأرض عبر السماء فوقها؛ الجلايدرز محاطون بمجلسهم على شرفة قصر إيتيستين، ويشاهدون جميعًا بخوف بينما تلقي أفيتوس بالظل على المدينة؛ إيفاسير، العملاق الشاهق الذي كان يحرس الموقد، يذبح وحش مانا أفيتوس بينما كان فينسنت وتابيثا وليليا هيلستيا يشاهدون في رعب، وقد انهار نصف منزلهم خلفهم؛ هيلين ودوردن يقودان الهجوم ضد وحش ضخم مقرن من النار والحجر الداكن يقترب من بلاك بيند؛ الجدار، سقط، مدفونًا تحت الجبل؛ أناكاشا من عشيرة ماتالي تسحب والدها أنكور، الذي فقد وعيه، بعيدًا عن مبنى مهدم؛ وسادات الأزوراس العظماء، كلٌّ منهم يقف في قلب مملكته. لكنني لم أرَ أمي ولا أختي. كل ما كنتُ أثق به هو صدق ماير، وأنهما في مأمنٍ تام. أُخرج الطابق الثاني تقريبًا من المقابر الأثيرية من عالم الأثير، الذي أصبح الآن بمثابة قرية تُحيط بقاعدة المبنى الجديد الذي بدأ بالظهور تدريجيًا. انتشرت في ذهني خريطة للمقابر الأثيرية كما رآها جي-آي، إلى جانب مخطط يُمكّننا من إنقاذ الجزء المهم من كل منطقة، مما يضمن عدم ضياع المعرفة الأثيرية التي ساهمت في إنشائها. والأهم من ذلك، وضع الأسس التي سيرتكز عليها كل ما آمل تحقيقه قريبًا. كان آخر مبنى خرج من المستوى الثاني هو عقار غراهنبل، المزدحم الآن بمن افترضت أنهم لاجئون مختبئون. مع بقاء إرادة ماير نشطة، شعرت بكل حياة بداخله عن كثب، كما لو كانت أصابعي على نبضهم. كنت لا أزال أطوي العقار إلى مدينة عندما هز انهيار المساحة التي كانت تحتوي على المستوى الثاني، البوابة. اندفع النهر الأثيري، المتعرج عبر الفراغ الأثيري على الجانب الآخر من البوابة، مرة أخرى، وارتجف الواقع نفسه. وبينما يهزني الاهتزاز، ظهرت خيوط ذهبية في رؤيتي مرة أخرى. تبعتها حواسي إلى حيث التقت، صورة ظلية مصنوعة بالكامل من خيوط القدر الملفوفة بإحكام والمخبأة في محيط الشمس، مرئية بين شريطين من شرائط الأرض المتوسعة باستمرار أعلاه. كأنه يستشعر انتباهي، دوى صوت القدر في رأسي. ’غراي. آرثر ليوين. لقد جئتُ لأشكرك. لقد حقق أداؤك كل التوقعات العملية.’ شعرتُ بنفسي أبتعد أكثر فأكثر عن جوهر ذاتي، ورؤيتي -التي لا تزال تنظر إلى الأسفل من الأعلى- تطفو بعيدًا عن جسدي وحضور رفاقي. ‘إنه أنت. النهر. أنت تدفع من الجانب الآخر.’ شعرتُ بغضبي كشيء بارد وبعيد يتسلل عبر طبقات مناورة الملك. ‘لماذا؟ كان بيننا اتفاق.’ ‘رؤيتك للمستقبل كانت شيئًا رائعًا، لكنها لا يمكن أن تنتهي إلا بهذه الطريقة. مع أن أجغرونا هو من بدأ العملية، فقد أكملتَ عملية ثقب الحاجز تمامًا، والآن قد يخرج الأثير مرة أخرى إلى العالم لينتشر ويستقر، مُطلقًا الضغط القسري الطويل. ضرورة الإنتروبيا.’ ‘على حساب هذا العالم بأكمله.’ أردتُ أن أصرخ بالكلمات، لكن العاطفة اللازمة لم تكن موجودة. ‘كل العوالم تموت. كل النجوم تحترق.’ سرى همهمة كشط عبر الخيوط الذهبية. ‘يمكنك أن ترتاح وتستسلم الآن يا آرثر. لقد فعلتَ كل ما هو مطلوب منك. إذا كانت ميولك الفانية تتطلب ذلك، ففكر في أنك ربما أنقذت الكون كله المعروف والمجهول على حساب عالم صغير واحد.’ مزق الأثير حواف البوابة، ممزقًا إياها أكثر، وغمر حدود أفيتوس، يهزها كزلزال. ‘عالم صغير واحد؟’ حدقت في شكل خيوط ذهبية. ‘لكنك من هذا العالم. كل تلك العقول والأصوات التي تتحد لتكوينك، هي من هذا العالم. كل من وُجد ليصبح جزءًا منك. بالتأكيد لا تزال هناك رغبة في حمايته؟’
عمومًا لا تنسوا دعاء كل مرة!
الفصل 526 – صعود المقابر الأثيرية
منظور: آرثر ليوين
تمزقت قنواتي، ودمى جلدي. تكسرت عظامي، وغلى دمي. ومع ذلك، ظللت مركزًا بكامل ذهني على المهمة، محصورًا بأمان خارج ذاتي. أعلم أن الألم موجود، لكن هذه اللحظة كانت بالغة الأهمية، فلا يسعني فقدان نفسي أمام شيء تافه كعذاب انهيار جسدي. خيط واحد من وعيي يحفظ كل ذلك الألم على مسافة آمنة، بينما حام عقلي في الأعلى، يراقب تسونامي الأثير وهو ينسكب في الغلاف الجوي.
كافحت طبقات نواتي الثلاث، اللامعة والضعيفة كطرف منهك، للسيطرة على فيض الأثير المنبعث من كسر طبقة نواتي الرابعة. رفرفت البوابات المنغرسة في النواة، التي تربطها بقنواتي، عاجزة، ودُمّرت القنوات تمامًا. تطلب الأمر كامل وعيي المعزز بمناورة الملك، باستثناء ذلك الخيط الوحيد، لأسيطر على كل هذه القوة. به، مددت يدي إلى الأسفل والأعلى، عملت جميع رونياتي بتناغم.
بدأت المعلومات تتدفق إلى ذهني من جي-آي عبر الاتصال المُشكَّل حديثًا مع تيسيا. رأيتُ شكل أفيتوس والمقابر الأثيرية، وفهمتُ الفيزياء اللازمة، والديناميكا الحرارية، والتمدد والانكماش المكاني، ونسيج الزمن، ودفء الحياة، وهي كلها ضرورية. في الأعلى، اتسع الجرح بسرعة، وزادت وتيرة نزول أفيتوس بشكل ملحوظ.
بدأت البوابة في الأسفل تتكشف، مُسكِبةً محتويات المقابر الأثيرية المتصلة بينما جُرِّت المنطقة الأولى إلى العالم المادي حيث طفت داخل الفراغ. ارتجفت البوابة تحت ضغط قوتين متعارضتين: فيضان الأثير المُنبعث من تضحيتي بطبقة أساسية، والنهر الأثيري الذي يُهدد باجتياح ضفتيه على الجانب الآخر. انهار فناء، وهو جزء من المنطقة الأولى للمقابر الأثيرية، وانكسر عندما سحبته الجاذبية إلى أسفل، ثم استدار واندمج مرة أخرى، مُكوِّنًا أشكالًا جديدة.
أضاء الدمار مع بقية رونياتي عندما ربط ريجيس سيطرته على الرون نفسه ببصيرتي. رقصت تيارات من اللهب البنفسجي على طول المسارات الأثيرية وداخل الفضاء المتغير.
فتحت رونية الفضاء تايغرين كايلم كبيت دمية طفل بينما استقرت الهياكل التي تشكلت حديثًا من المقابر الأثرية في التجاويف المفتوحة. أحرق الدمار أي مادة غير ضرورية إلى لا شيء. تقلص الفضاء وتوسع حسب الضرورة. ربطت المسارات الأثيرية الجديد والقديم معًا. ارتجف الوقت في قفزات متوقفة بينما تكيفت المقابر الأثرية مع مرور الوقت الحقيقي.
خرجت الشوارع من البوابة بشرائط، تظهر وتعاد هيكلتها. انهارت المباني وأعيد تشكيلها تحت الضغوط المتعارضة لرونية الفضاء وقداس الشفق. قلّم الدمار باستمرار ما لم أستطع استخدامه، بينما احتفظتُ بشكل كل شيء في ذهني كمخطط رباعي الأبعاد.
في خضمّ فوضى المقابر الأثيرية التي تُفتح وتُعاد صياغتها كقارب تجديف من الورق، صرخ الناس -كل أولئك الذين كانوا محصورين فيها. العشرات في البداية، ثم المئات، يتمسكون بأيّ شيء صلب يستطيعون حمله، كلٌّ منها مُغلّفٌ بغطاءٍ من المكان والزمان.
جاهدتُ في مناورة الملك للحد المطلوب من التركيز. وبينما كنتُ أنظر من الأعلى، رأيتُ نفسي أسعل دمًا. لُطخ جسدي الممزق باللون القرمزي، ويدا تيسيا زلقتان بالدم الذي تسرب عبر بشرتي. اختلطت دموعها بالدم الذي يسيل بحرية من أنفها.
شدّدتُ تركيزي، وجذبتُ الأغصان معًا بينما أكافح لإعادة امتصاص أثيري لتعزيز الرونيات بشكل أكبر.
لَسهُل الأمر لو امتلكنا الوقت لتطهير المقابر الأثيرية تمامًا، وإغلاق جميع الصعود، وإزالة الأشخاص من المستويين الأولين. بدلاً من ذلك، كانت المقابر الأثيرية مليئة باللاجئين الهاربين من هجوم أغرونا الأخير.
ومثل أي مرحلة أخرى من هذه العملية، اضطررتُ إلى التفكير في أعلى فرصة للنجاح. سيكون إنقاذ سكان المقابر الأثيرية مثل تمرير حبات البازلاء عبر شفرات درّاس دوارة. كان الوقت والصبر والطاقة المطلوبة تضحية لم أعرف ثمنها بعد، تمامًا مثل أفيتوس.
قد تكون محاولة إنقاذ الجميع في وقت واحد هي السبب الحقيقي لعدم إنقاذي أحدًا على الإطلاق… كان هناك طقطقة مدوية من الأعلى. لقد دُفع الكثير من أفيتوس بسرعة كبيرة من خلال الجرح دون دعم بينما كنت أركز على المقابر الأثيرية.
عزلتني مناورة الملك عن الألم والخوف. ازدهرت رؤية جديدة في الدم، تنمو مثل الزهور على طول الفروع المتوسعة. كان هذا هو، غرض الرونية. تضحية حقيقية. كانت الرونية، حتى الآن، تحت السيطرة بسبب رغبتي في الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من نفسي. لكن لم أستطع فعل ذلك هنا، الآن. لا يمكن أن يكون ثمن إنقاذ المقابر الأثيرية، وأفيتوس، والأزوراس، والألاكريان، إلا أنا.
لقد بدأتُ بالفعل.
كان جسدي يُنتزع من الداخل. سحب عقلي من القشرة. لمعت نواتي وخَشُنَت، حتى ثلاث طبقات حول نواة المانا العضوية المكسورة. عليّ فعل المزيد. أن أعزل نفسي تمامًا.
وبينما يتجلى الفهم في ذهني كما تتجلى المقابر الأثيرية من البوابة، انقسم كل فرع من فروع مناورة الملك إلى فرع، ثم نما فرع جديد آخر، وتلاشى كل الألم والقلق، بعد أن تلاشى، في ضجيج خلفي لا معنى له. توسع عقلي على طول الفروع، حاملًا في داخله كامل المسارات الأثيرية التي تربط كل نقطة ببعضها، سواء تلك المستقرة في نسيج هذا العالم أو تلك التي تتشكل الآن كخلايا عصبية عبر القارة المتساقطة في الأعلى.
بدا العالم وكأنه يتنفس، وفي تلك الرياح الدافئة، رأيت الخيوط الذهبية التي تربط كل شيء معًا. كنت في المركز، إذ التفت خيوط لا تُحصى حولي وتمتد بعيدًا، إلى كل إلف وقزم وإنسان وألاكريان وأزوراس في كلا العالمين. ضاع جسدي داخل شكل بشري من خيوط ذهبية متوهجة ملفوفة بإحكام.
انقطع النفس، واختفت الخيوط من الرؤية.
في السماء، لم تعد أفيتوس تنهار، بل أصبحت الآن مرتكزة على حلقة من الأثير الخالص. الأرض، مثل المقابر الأثيرية، تكثفت وأُعيد تشكيلها وأنا أُشكّلها كطينٍ كثيف.
دار الدمار في مسارات الأثير، يتسابق على سطحها ويستهلكها بدقة متناهية.
أميالٌ تلو أميال من أفيتوس سقطت من خلال الجرح، بينما انهار جيب الفضاء المتوسع الذي لطالما وُجدت فيه. لم أملك سوى ثوانٍ لأعتاد على العملية قبل أن تتغير مجددًا، وكل خطوة للأمام ستزيد العملية تعقيدًا.
قالت سيلفي بحزم، وقد شعرت بتوتري، “هيا بنا نساعد.” ومثل تيسيا، لُطخت يداها
بدمي.
فتحت فمي لأتحدث، لكن دون جدوى. ‘أحتاج فقط… إلى بعض الوقت.’
أومأت سيلفي برأسها. أغمضت عينيها بإحكام. وامتدت القوة والأثير، على هيئة فنونها السحرية، عبر وجه العالم، مُبطئةً الزمن إلى حدّ التنقيط. صدّت
قوة مُعاكسة. شهقت سيلفي وهي تفقد تعويذتها، التي تحطمت، مُرسلةً
رعشة مُقززة في عمودي الفقري. “ماذا؟” سألت وهي لاهثة.
هناك شيءٌ ما قادم. عاصفة رعدية من المانا والأثير، بالكاد تُكبح. تنزل من أفيتوس.
“ماير،” قلت، والاسم خشن في حلقي.
كان كل أثيري تقريبًا خارج جسدي، مُشكلًا الأيدي الميتافيزيقية التي استخدمتها لتشكيل أفيتوس في الأعلى والمقابر الأثيرية في الأسفل. لهذا السبب لم أكن أُشفى. سحب ريجيس ما يحتاجه لتفعيل الدمار وتمكيني من توجيهه، لكنني لم أحتفظ إلا بما يكفي لإبقاء جسدي المنهك حيًا. الآن، جاهدتُ لأستعيد ما يكفي للدفاع عنا.
إذا هاجمت ماير…
“آرثر لوين،” دوى صوتها في الجو، عميقًا ورنانًا ومليئًا بالألم. “لقد شعرتُ بموت كيزيس، لكن لا بد أن أعرف… كيف مات؟ هل كان أغرونا؟” حملت كلماتها نبرة حادة لكنها متوسلة.
نظرتُ إلى النار المشتعلة خلف عينيها، غير قادر على الخوف. “لقد قتلتُه.”
كان هناك نفس طويل، كعاصفة في مقدمة العاصفة، قبل أن تجيب بصوت مرتجف. “لقد جلبناك بيننا. عاملناك كما لو كنت واحدًا منا. درّبناك وربيناك. دعوناك إلى أقدس أماكننا. جعلناك واحدًا منا. وأنتَ تُكافئنا بقتل الرجل الذي حافظ على هذا العالم آمنًا لفترة طويلة؟” ملاحظًا فكرتُ، الجدير بالذكر أنها لم تسأل عن السبب.
أكملت ماير هبوطها، وهي ترفرف كورقة في مهب الريح. كان وجهها كسحابة رعدية، وعيناها كبرقين.
“جدتي!” صرخت سيلفي، وهي تحلق بيني وبين ماير. “أنتِ تعلمين أنه لم يكن لديه خيار. أنتِ تعرفين أكثر من أي شخص آخر القرارات التي اتخذها كيزيس، والتي كان سيتخذها مجددًا. لكن إن لم تسمحي لنا بإنهاء ما نفعله، فسيموت كل من بقي هنا، بمن فيهم جميع أفراد شعبك. موت كيزيس لن يعني شيئًا!”
كلما اقتربت ماير، بدت أصغر. لم تكن الملكة الشابة اللامعة التي تقف بجانب كيزيس في قاعة العرش، لكنها لم تكن تمامًا الشيخة الذابلة التي قابلتها لأول مرة. بدت عجوزًا -قديمة- لكنها غير مروضة. في تلك اللحظة، ربما لأول مرة، فهمت حقًا لماذا كنا نعتبر الأزوراس طواغيتًا علينا.
رغم أن اللحظة كانت مشحونة، وكأننا على حافة سكين، لم أستطع إيقاف ما كنت أفعله. انفتح المستوى الأول بأكمله من المقابر الأثيرية عبر البوابة التي يبلغ ارتفاعها الآن مائتي قدم. باستخدام الأثير للتحكم في وفرة مانا سمة الأرض، سحبتُ حجارة من الجبال نفسها، ولففت حول الجانب المفتوح من تايغرين كايلوم وملأته، مشكلًا قاعدة الصرح. من بعيد جدًا، استطعتُ سماع صرخات وتوسلات أولئك الذين شردتهم للتو.
أما أفيتوس فأصعب. احتجت إلى سيلفي لإبطاء اندفاعها نحو هذا العالم، لأن التشكيل كان دقيقًا. حددت حسابات جي-إي شريطًا من الأرض بعرض مائة وأربعة وأربعين ميلًا بالضبط. بالفعل، تجاوزت الحافة جبال ناب باسيليسك بكثير وكانت تقترب.
أما عن الشواطئ الشرقية لألاكريا، فلم يكن أمامي سوى لحظات لأجعل المجمع ينقسم إلى ثاني ثلاثة تشكيلات مطلوبة لإنقاذ أفيتوس.
‘أشعر بضعف شديد… يا رجل،’ فكّر ريجيس. لم يكن أمامه هو وسيلفي خيار سوى التعايش داخل شبكة مناورة الملك، مع أنهما اضطرا إلى الحفاظ على مسافة ذهنية بينهم وإلا خاطرا بانهيار عقولهما وهما يحاولان متابعة جميع أفكاري دفعة واحدة.
كانت ماير أمامنا مباشرة الآن، مع أنني لم ألحظ حركتها. تعلقت عيناها بحالتي -الدم، والطيران المرتجف، والأثير الصغير الذي يدعم هيئتي الجسدية. كانت هذه هي اللحظة التي سأعرف فيها من هي حقًا، في النهاية. من ستختار أن تكون.
“أنت تقتل نفسك،” قالت بصوت أجش.
هل هذا ندم أم ارتياح في نبرتها؟ لم أستطع الجزم. “لن تكون… المرة الأولى،” خنقت نفسي.
رمقت عينيها تيسيا، ثم استقرت على سيلفي. “أنا آسفة يا ابنة ابنتي. أعرف.” أغمضت عينيها، وأطلقت نفسًا خافتًا. “أعرف.” أومأت
سيلفي، بعينيها الثابتتين اللامعتين، برأسها لجدتها إيماءة خفيفة، ثم عادت قوتها لتمتد، وهذه المرة لم تتحرك ماير لإيقافها. قاومت سيلفي عاصفة الأثير الهادرة التي أطلقتها للتو، وتمسكت بالرابط بيننا بقوة في ذهني، لا أشاركها أفكاري بل أضمها إلى وعيي، رابطي بالمسارات الأثيرية من خلال خطوة الحلكم وتكوينات أفيتوس والمقابر الأثيرية من خلال رونية الفضاء. من خلالي، وصلت قوتها إلى أبعد أركان العالمين، ومع أنها لم توقف الزمن، إلا أنها خففت من وطأة مروره، مانحةً إياي وقتًا لأُحوّل المعلومات الخام والحسابات إلى واقع ملموس.
مع مرور أول شريط من الأرض فوق الساحل، بحثت عن خط التماس الذي يُمثل
نقطة الانتقال التي أحتاجها. “عائلتي؟” سألتُ ماير وأنا أُركّز.
قالت، “آمنة،” بنبرة خشنة تحت وطأة إرهاقها. انتظرتُ المزيد، أردتُ أن أسأل المزيد، أن أطلب منها أن تشرح، لكن إجابتها المختصرة استغرقت كل وقتي قبل أن أجد ما أبحث عنه، وعاد تركيزي كله إلى أفيتوس. انقسمت الأرض التي تُحيط بالسماء، فلم تعد أفيتوس شريطًا واحدًا، بل شريطين، يتشكل الشريط الثاني بزاوية 36 درجة بالضبط وهي تتجه الآن نحو الجنوب الشرقي.
تطلبت حلقة ثانية طبقةً أخرى من الأثير الداعم، وتدفقًا جديدًا من الدمار وقداس الشفق. ضاقت الشبكة المتشابكة التي تُشكّل الآن مناورة الملك مع شدّة الضغط عليها في كل اتجاه.
انزلق ضيق الوقت القصير لسيلفي مجددًا وهي تأخذ قسطًا من الراحة.
بجانبي، تيسيا، لا تزال متشبثه بذراعي، ترهلت. هبط رأسها على كتفي المدرع بقوة شديدة، مما أدى إلى قطعها فوق الحاجب. كانت عيناها مشتتة؛ لم يبدو أنها لاحظت ذلك حتى. جذبتها بقوة أكبر إلى جانبي، غير متأكدٌ مما إذا كان بوسعها دعم نفسها. ‘تيس. تيسيا…؟’
“أنا… بخير.” كانت أفكارها تتسرب وبطيئة.
“الضغط على أنظمتها الجسدية هائل،” قاطعت جي-آي. “هذا الهيكل -ما أنا عليه الآن- لم يكن من المفترض أن يُحتجز في مسكن عضوي. كمية المعلومات تحرقها من الداخل.”
“قلت إنني بخير،” ردت تيسيا بسرعة، ورفعت رأسها عن كتفي ودفعت بعيدًا عني، على الرغم من أنها لم تطلق ذراعي تمامًا. كان جانبها الآن ملطخًا بدمائي -ودمائها.
“أنا بخير أيضًا، شكرًا لسؤالك،” قال ريجيس ساخرًا بما يعادل سعال الدم في ذهنه.
طفت ماير حولنا، وحاجباها مقبوضان قلقًا. “دعني أساعدكم.” رفعت يدها لتمنع أي جدال. “أفهم. الأمر لا يتعلق بالتحالف أو التسامح، بل بالبقاء. لقد دُفع أعظم ثمن لشراء مستقبل شعبي. لن أضيعه.”
لم تنتظر أي رد آخر. دارت المانا حول يدها المرفوعة، مشرقة وقوية
. استجابت نفحة من الأثير، والتأمت جروحنا ببطء.
ارتسمت حاجبا ماير أكثر، وانخفضت شفتاها في عبوس عميق من التركيز. تضخم المانا، لكن الأثير بالكاد تفاعل. أدركت أنها كانت تستنفذ كل تركيزها لمجرد شفاء أصغر جروحنا.
“ركزي على تيس،” قلتُ بصوت مرتجف. ترددت
، ثم حولت انتباهها بالكامل إلى تيسيا. خفّ الدم المتساقط من أنف تيس
، وخفّ تعبيرها قليلًا.
لكن عندما رحل عني ضغط الشفاء اللطيف فجأة، وجدت نفسي أختنق. نظرتُ من الأعلى، فرأيتُ عينيّ تتدحرجان إلى محجريهما. تضاعف ضغط عالم الأثير فجأةً، ثم تضاعف ثلاث مرات. بدأت الأقسام الأولى من الطابق الثاني من المقابر الأثيرية بالظهور عبر البوابة، وانفجر المبنى -وهو نُزُل من طابقين كان قائمًا على حافة فناء المدخل- وتحول إلى أنقاض. بالكاد تمكنتُ من حماية العشرات من الأشخاص الذين كانوا محشورين في الداخل من الانهيار، ولففتهم بالأثير.
تصدّعت الأرض تحتهم بينما زحفت كرومٌ ضخمة خضراء زمردية اللون لتقتلعهم من الهواء. ارتجفت تيسيا من جهد الاستحضار، وإرادتها الوحشية تغلي في داخلها. في إحدى زوايا شبكة خيوط الأفكار المنسوجة، أدركتُ أنه بينما كنتُ أسحب من المقابر الأثيرية، سمح ذلك للنهر الأثيري بمزيد من الحرية للالتواء والانعطاف، مزيلًا الحواف المجازية كما لو أن حيواناتٍ تحفر جحورًا تُهين شاطئ نهر حقيقي. انحنيتُ نحو الوزن غير المتوقع، لأستعيد توازني. تكيفت الحسابات المتدفقة إليّ من جي-آي في منتصف التيار لاستيعاب زيادة الضغط.
بات هناك وفرة من الأثير تتدفق الآن، تتدفق من البوابة وحول حواف أفيتوس، ولكن مثل النهر الأثيري، امتلك جاذبيته الخاصة، أقوى من أن أستغلها.
لا بد من وجود طريقة ما لتحييده، لكنني كنت قد وصلت إلى نهاية قدرتي على التركيز والتفكير في المعلومات الجديدة.
“آرثر.”
نظرتُ حولي في حيرة. الجدة سيلفيا؟ لكن لا، بالطبع لا. التقت عينا ماير،
وقد نسيت وجودها للحظة بينما كان عقلي مشدودًا إلى حافة الانهيار.
“أنت تجوعني،” قالت بهدوء لكن بقوة. “الأثير بالكاد يتفاعل معي. أنت تسيطر عليه كله. أنت و… أي شيء آخر هنا، معنا.
“القوة تحاول أن تأتي من خلال أفيتوس.”
لقد فهمتُ. ما تبقى من الأثير الجوي القليل كان قد استُخدم في الثواني الأولى من هذا الحدث، حتى قبل أن أكسر الطبقة الخارجية من نواتي لأُطلق الأثير المُخزّن. لم يتبقَّ سوى الأثير الخاص بي، مُوَجَّهًا عبر الرونيات ليؤثر على المقابر الأثيرية وأفيتوس. بالطبع، لم تكن ماير أكثر قدرة مني على الوصول إلى الأثير المُحيط بأطراف العالم.
“لكن لا يزال بإمكاني مساعدتك يا آرثر.” أشرقت عيناها، يأس وندم يمتزج بشعور
بالخسارة والقبول.
ثم بدأت عيناها في النمو، والوجه من حولها، يتسع ويستطيل. طالت رقبتها، وتمدد جسدها بسرعة، وأصبحت أثوابها المتدفقة قشورًا عريضة بيضاء ناصعة. امتدت الأجنحة خلفها، تنبض ببطء وتدور مانا الهواء. لمعت الأحرف الرونية الذهبية على وجهها التنيني، وعلى رقبتها الطويلة، وفوق أجنحتها العريضة.
حدقت في عينيها الأرجوانيتين الآن. أشرقت العلامات الذهبية حولهما، ثم خفتت واختفت تمامًا في النهاية. انطلق لسانها، مخترقًا درعي ولحمي وعظامي. على عكس سيلفيا، لم تكن قادرة على اختراق نواتي بنفسها. بدلًا من ذلك، كان عليّ أن أسمح لها بالدخول. تجمدت في لحظة من الرعب الذي أتذكره، كدت أرفضها.
ثم… وصلت مرة أخرى إلى قبضة من الأثير حول نواتي. عندما هدد عالم الأثير بالانفجار وهدد جسدي بالفشل، كنت بحاجة إلى المزيد من الأثير. كان هناك أقل منه في الطبقة الثالثة من الرابعة، ولكن…
قبضت على نفسي، وتحطمت الطبقة الخارجية من النواة. لم تلتئم جروح المرة الماضية، لذلك لم يكن الأثير بحاجة إلى اتباع قنواتي، بل اتبع الجروح الممزقة التي تمزق جسدي.
اخترق لسان ماير قلبي أخيرًا، كما فعلت سيلفيا منذ زمن بعيد. ارتفعت خيوط من الدخان الذهبي من صدري، متلألئة بشرارات الجمشت. عندما انسحبت، فُقد دم الجرح في بحر اللون الأحمر المتشبث بي ويتسرب بين قشور درعي الأثري. بينما بدت سيلفيا متألمة وضعيفة في أعقاب نقل إرادتها، بدت ماير بطريقة ما أكثر روعة. تلاشى اللون الذهبي، وكذلك اللون الأرجواني اللامع لقزحيتيها، لكن التنينة الييضاء العجوز التي تحوم أمامي الآن لم تكن أقل وحشية وقوة.
“أتمنى أن تنعم بالحكمة لاستخدام هذه البصيرة أفضل مما استخدمتُها أنا في آلاف السنين، يا آرثر ليوين.”
شعرتُ ببريق إرادتها الذهبي يستقر داخل الطبقتين المتبقيتين من نواتي الأثيرية، دافئًا ومريحًا.
“جدتي…”
لم تكن الكلمات هذه المرة كلماتي، بل كلمات سيلفي. ومع ذلك، في هذه اللحظة، حملت نفس الطاقة اليائسة التي شعرتُ بها وأنا في الرابعة من عمري أشاهد سيلفيا تضحي بنفسها لإنقاذي من كاديل دون أن أفهم.
لم تكن هناك كلمات أخرى. ابتعدت ماير وحلقت إلى قاعدة المقابر الأثيرية التي لا تزال تتشكل. كنتُ أعرف بلا شك أنها تبحث عن كيزيس. مددتُ يدي نحو بريق إرادتها الذهبي، وفعّلته.
غمرتني موجة من الطاقة، وظهرت رونية ذهبية على درعي ورقبتي، متشابكة مع رونية قلب العالم.
أحسستُ بقوى الحياة لدى رفاقي، وماير نفسها، والآلاف القليلة من الأشخاص الذين جُلبوا بالفعل من المقابر الأثيرية، مُكدّسين كقطع الووغارت في الطبقة المُشكّلة حديثًا من المقابر الأثيرية المادية. مع انعطافٍ في الفضاء، فتحت الطريق إلى ما كان في السابق مخزنًا للآثار المقدسة لأغرونا.
تراكم جزء كبير من الطاقة المُطلقة من طبقتي الأساسية الثالثة بداخلي وحولي، مع أن معظمها قد تدفق عبر المسارات الأثيرية لدعم رونياتي في الأعلى والأسفل. جذبتُ تلك الطاقة إلى داخلي، وضبطتها لشفائي.
كانت قوة حياة تيسيا ضعيفة، ونبضها بطيء، على الرغم من قوة المانا لديها. مع تفعيل إرادة ماير، شعرتُ بالمسافة بيننا، وحرارة قوة حياتها، وعندما دفعتُها بالأثير، تدفقت إلى تيسيا. أضاءت جروحها كما لو أنها سُحبت في النار خلف…
عيون. وجهتُ الأثير إليهما -إلى أعصابها ومشابكها العصبية، وإلى نسيج عقلها المليء بالتمزقات الدقيقة.
تنفستُ الصعداء على الفور.
كانت المباني والشوارع تندفع من البوابة الآن. باستخدام رونية الفضاء، أعدتُ بناء المنطقة الشبيهة بالمدينة داخل وحول بقايا تايغرين كايلوم. تلاعب الأثير بالمانا لاستحضار وتشكيل الحجر، ونحت الدمار ما هو غير ضروري أو غير صالح للاستخدام، وأعاد قداس الشفق بناء ما تبقى، وأعاد الفضاء تشكيل الواقع المادي للمنطقة.
مستشعرًا اقتراب نقطة الترسيم التالية في أفيتوس، استعدتُ لتوسيع عقلي المكتنز أكثر. مدت سيلفي يدها بفن الأيفوم، متحديةً إبطاء الوقت، مانحةً إياي لحظةً لأستعد. سيُنزع شريط ثالث من الأرض عن الآخرين، يمتد هذا الشريط من الجرح بزاوية ستة وثلاثين درجة شمال الأول. امتدت قوتي الآن عبر العالم حيث اقترب الشريط الأول من الأرض من ديكاثين. ومع
انغماس ذهني في المسارات الأثيرية عبر خطوة الحاكم، شعرت مرة أخرى وكأنني أرى القارتين بالكامل.
رأيت سيث ومايلا بين الحشود في بلدة ميرين، لم يعودا يتعرضان للقصف من أنقاض أفيتوس وبدلًا من ذلك يشاهدان في رهبة بينما تمتد الأرض عبر السماء فوقها؛ الجلايدرز محاطون بمجلسهم على شرفة قصر إيتيستين، ويشاهدون جميعًا بخوف بينما تلقي أفيتوس بالظل على المدينة؛ إيفاسير، العملاق الشاهق الذي كان يحرس الموقد، يذبح وحش مانا أفيتوس بينما كان فينسنت وتابيثا وليليا هيلستيا يشاهدون في رعب، وقد انهار نصف منزلهم خلفهم؛ هيلين ودوردن يقودان الهجوم ضد وحش ضخم مقرن من النار والحجر الداكن يقترب من بلاك بيند؛ الجدار، سقط، مدفونًا تحت الجبل؛ أناكاشا من عشيرة ماتالي تسحب والدها أنكور، الذي فقد وعيه، بعيدًا عن مبنى مهدم؛ وسادات الأزوراس العظماء، كلٌّ منهم يقف في قلب مملكته.
لكنني لم أرَ أمي ولا أختي. كل ما كنتُ أثق به هو صدق ماير، وأنهما في مأمنٍ تام.
أُخرج الطابق الثاني تقريبًا من المقابر الأثيرية من عالم الأثير، الذي أصبح الآن بمثابة قرية تُحيط بقاعدة المبنى الجديد الذي بدأ بالظهور تدريجيًا. انتشرت في ذهني خريطة للمقابر الأثيرية كما رآها جي-آي، إلى جانب مخطط يُمكّننا من إنقاذ الجزء المهم من كل منطقة، مما يضمن عدم ضياع المعرفة الأثيرية التي ساهمت في إنشائها.
والأهم من ذلك، وضع الأسس التي سيرتكز عليها كل ما آمل تحقيقه قريبًا.
كان آخر مبنى خرج من المستوى الثاني هو عقار غراهنبل، المزدحم الآن بمن افترضت أنهم لاجئون مختبئون. مع بقاء إرادة ماير نشطة، شعرت بكل حياة بداخله عن كثب، كما لو كانت أصابعي على نبضهم. كنت لا أزال أطوي العقار إلى مدينة عندما هز انهيار المساحة التي كانت تحتوي على المستوى الثاني، البوابة. اندفع النهر الأثيري، المتعرج عبر الفراغ الأثيري على الجانب الآخر من البوابة، مرة أخرى، وارتجف الواقع نفسه.
وبينما يهزني الاهتزاز، ظهرت خيوط ذهبية في رؤيتي مرة أخرى. تبعتها حواسي إلى حيث التقت، صورة ظلية مصنوعة بالكامل من خيوط القدر الملفوفة بإحكام والمخبأة في محيط الشمس، مرئية بين شريطين من شرائط الأرض المتوسعة باستمرار أعلاه.
كأنه يستشعر انتباهي، دوى صوت القدر في رأسي. ’غراي. آرثر ليوين. لقد جئتُ لأشكرك. لقد حقق أداؤك كل التوقعات العملية.’
شعرتُ بنفسي أبتعد أكثر فأكثر عن جوهر ذاتي، ورؤيتي -التي لا تزال تنظر إلى الأسفل من الأعلى- تطفو بعيدًا عن جسدي وحضور رفاقي. ‘إنه أنت. النهر. أنت تدفع من الجانب الآخر.’ شعرتُ بغضبي كشيء بارد وبعيد يتسلل عبر طبقات مناورة الملك. ‘لماذا؟ كان بيننا اتفاق.’
‘رؤيتك للمستقبل كانت شيئًا رائعًا، لكنها لا يمكن أن تنتهي إلا بهذه الطريقة. مع أن أجغرونا هو من بدأ العملية، فقد أكملتَ عملية ثقب الحاجز تمامًا، والآن قد يخرج الأثير مرة أخرى إلى العالم لينتشر ويستقر، مُطلقًا الضغط القسري الطويل. ضرورة الإنتروبيا.’
‘على حساب هذا العالم بأكمله.’ أردتُ أن أصرخ بالكلمات، لكن العاطفة اللازمة لم تكن
موجودة.
‘كل العوالم تموت. كل النجوم تحترق.’ سرى همهمة كشط عبر الخيوط الذهبية. ‘يمكنك أن ترتاح وتستسلم الآن يا آرثر. لقد فعلتَ كل ما هو مطلوب منك. إذا كانت ميولك الفانية تتطلب ذلك، ففكر في أنك ربما أنقذت الكون كله المعروف والمجهول على حساب عالم صغير واحد.’
مزق الأثير حواف البوابة، ممزقًا إياها أكثر، وغمر حدود أفيتوس، يهزها كزلزال.
‘عالم صغير واحد؟’ حدقت في شكل خيوط ذهبية. ‘لكنك من هذا العالم. كل تلك العقول والأصوات التي تتحد لتكوينك، هي من هذا العالم. كل من وُجد ليصبح جزءًا منك. بالتأكيد لا تزال هناك رغبة في حمايته؟’
لم يكن هناك أي توقف. لا تلميح إلى أن كلماتي قد أثارت بعض التفكير داخل
الكيان اللاإنساني. فقط… ‘لا.’
______
اعذروا أي خطأ قد تجدونه في هذا الفصل؛ هاتفي خربان وبترجم من مكان ثاني ومش معتاد عليه أبدًا..
*إقرأ* رواياتنا* فقط* على* مو*قع م*لوك الرو*ايات ko*lno*vel ko*lno*vel. com ______
عمومًا لا تنسوا دعاء كل مرة!
الفصل 526 – صعود المقابر الأثيرية منظور: آرثر ليوين تمزقت قنواتي، ودمى جلدي. تكسرت عظامي، وغلى دمي. ومع ذلك، ظللت مركزًا بكامل ذهني على المهمة، محصورًا بأمان خارج ذاتي. أعلم أن الألم موجود، لكن هذه اللحظة كانت بالغة الأهمية، فلا يسعني فقدان نفسي أمام شيء تافه كعذاب انهيار جسدي. خيط واحد من وعيي يحفظ كل ذلك الألم على مسافة آمنة، بينما حام عقلي في الأعلى، يراقب تسونامي الأثير وهو ينسكب في الغلاف الجوي. كافحت طبقات نواتي الثلاث، اللامعة والضعيفة كطرف منهك، للسيطرة على فيض الأثير المنبعث من كسر طبقة نواتي الرابعة. رفرفت البوابات المنغرسة في النواة، التي تربطها بقنواتي، عاجزة، ودُمّرت القنوات تمامًا. تطلب الأمر كامل وعيي المعزز بمناورة الملك، باستثناء ذلك الخيط الوحيد، لأسيطر على كل هذه القوة. به، مددت يدي إلى الأسفل والأعلى، عملت جميع رونياتي بتناغم. بدأت المعلومات تتدفق إلى ذهني من جي-آي عبر الاتصال المُشكَّل حديثًا مع تيسيا. رأيتُ شكل أفيتوس والمقابر الأثيرية، وفهمتُ الفيزياء اللازمة، والديناميكا الحرارية، والتمدد والانكماش المكاني، ونسيج الزمن، ودفء الحياة، وهي كلها ضرورية. في الأعلى، اتسع الجرح بسرعة، وزادت وتيرة نزول أفيتوس بشكل ملحوظ. بدأت البوابة في الأسفل تتكشف، مُسكِبةً محتويات المقابر الأثيرية المتصلة بينما جُرِّت المنطقة الأولى إلى العالم المادي حيث طفت داخل الفراغ. ارتجفت البوابة تحت ضغط قوتين متعارضتين: فيضان الأثير المُنبعث من تضحيتي بطبقة أساسية، والنهر الأثيري الذي يُهدد باجتياح ضفتيه على الجانب الآخر. انهار فناء، وهو جزء من المنطقة الأولى للمقابر الأثيرية، وانكسر عندما سحبته الجاذبية إلى أسفل، ثم استدار واندمج مرة أخرى، مُكوِّنًا أشكالًا جديدة. أضاء الدمار مع بقية رونياتي عندما ربط ريجيس سيطرته على الرون نفسه ببصيرتي. رقصت تيارات من اللهب البنفسجي على طول المسارات الأثيرية وداخل الفضاء المتغير. فتحت رونية الفضاء تايغرين كايلم كبيت دمية طفل بينما استقرت الهياكل التي تشكلت حديثًا من المقابر الأثرية في التجاويف المفتوحة. أحرق الدمار أي مادة غير ضرورية إلى لا شيء. تقلص الفضاء وتوسع حسب الضرورة. ربطت المسارات الأثيرية الجديد والقديم معًا. ارتجف الوقت في قفزات متوقفة بينما تكيفت المقابر الأثرية مع مرور الوقت الحقيقي. خرجت الشوارع من البوابة بشرائط، تظهر وتعاد هيكلتها. انهارت المباني وأعيد تشكيلها تحت الضغوط المتعارضة لرونية الفضاء وقداس الشفق. قلّم الدمار باستمرار ما لم أستطع استخدامه، بينما احتفظتُ بشكل كل شيء في ذهني كمخطط رباعي الأبعاد. في خضمّ فوضى المقابر الأثيرية التي تُفتح وتُعاد صياغتها كقارب تجديف من الورق، صرخ الناس -كل أولئك الذين كانوا محصورين فيها. العشرات في البداية، ثم المئات، يتمسكون بأيّ شيء صلب يستطيعون حمله، كلٌّ منها مُغلّفٌ بغطاءٍ من المكان والزمان. جاهدتُ في مناورة الملك للحد المطلوب من التركيز. وبينما كنتُ أنظر من الأعلى، رأيتُ نفسي أسعل دمًا. لُطخ جسدي الممزق باللون القرمزي، ويدا تيسيا زلقتان بالدم الذي تسرب عبر بشرتي. اختلطت دموعها بالدم الذي يسيل بحرية من أنفها. شدّدتُ تركيزي، وجذبتُ الأغصان معًا بينما أكافح لإعادة امتصاص أثيري لتعزيز الرونيات بشكل أكبر. لَسهُل الأمر لو امتلكنا الوقت لتطهير المقابر الأثيرية تمامًا، وإغلاق جميع الصعود، وإزالة الأشخاص من المستويين الأولين. بدلاً من ذلك، كانت المقابر الأثيرية مليئة باللاجئين الهاربين من هجوم أغرونا الأخير. ومثل أي مرحلة أخرى من هذه العملية، اضطررتُ إلى التفكير في أعلى فرصة للنجاح. سيكون إنقاذ سكان المقابر الأثيرية مثل تمرير حبات البازلاء عبر شفرات درّاس دوارة. كان الوقت والصبر والطاقة المطلوبة تضحية لم أعرف ثمنها بعد، تمامًا مثل أفيتوس. قد تكون محاولة إنقاذ الجميع في وقت واحد هي السبب الحقيقي لعدم إنقاذي أحدًا على الإطلاق… كان هناك طقطقة مدوية من الأعلى. لقد دُفع الكثير من أفيتوس بسرعة كبيرة من خلال الجرح دون دعم بينما كنت أركز على المقابر الأثيرية. عزلتني مناورة الملك عن الألم والخوف. ازدهرت رؤية جديدة في الدم، تنمو مثل الزهور على طول الفروع المتوسعة. كان هذا هو، غرض الرونية. تضحية حقيقية. كانت الرونية، حتى الآن، تحت السيطرة بسبب رغبتي في الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من نفسي. لكن لم أستطع فعل ذلك هنا، الآن. لا يمكن أن يكون ثمن إنقاذ المقابر الأثيرية، وأفيتوس، والأزوراس، والألاكريان، إلا أنا. لقد بدأتُ بالفعل. كان جسدي يُنتزع من الداخل. سحب عقلي من القشرة. لمعت نواتي وخَشُنَت، حتى ثلاث طبقات حول نواة المانا العضوية المكسورة. عليّ فعل المزيد. أن أعزل نفسي تمامًا. وبينما يتجلى الفهم في ذهني كما تتجلى المقابر الأثيرية من البوابة، انقسم كل فرع من فروع مناورة الملك إلى فرع، ثم نما فرع جديد آخر، وتلاشى كل الألم والقلق، بعد أن تلاشى، في ضجيج خلفي لا معنى له. توسع عقلي على طول الفروع، حاملًا في داخله كامل المسارات الأثيرية التي تربط كل نقطة ببعضها، سواء تلك المستقرة في نسيج هذا العالم أو تلك التي تتشكل الآن كخلايا عصبية عبر القارة المتساقطة في الأعلى. بدا العالم وكأنه يتنفس، وفي تلك الرياح الدافئة، رأيت الخيوط الذهبية التي تربط كل شيء معًا. كنت في المركز، إذ التفت خيوط لا تُحصى حولي وتمتد بعيدًا، إلى كل إلف وقزم وإنسان وألاكريان وأزوراس في كلا العالمين. ضاع جسدي داخل شكل بشري من خيوط ذهبية متوهجة ملفوفة بإحكام. انقطع النفس، واختفت الخيوط من الرؤية. في السماء، لم تعد أفيتوس تنهار، بل أصبحت الآن مرتكزة على حلقة من الأثير الخالص. الأرض، مثل المقابر الأثيرية، تكثفت وأُعيد تشكيلها وأنا أُشكّلها كطينٍ كثيف. دار الدمار في مسارات الأثير، يتسابق على سطحها ويستهلكها بدقة متناهية. أميالٌ تلو أميال من أفيتوس سقطت من خلال الجرح، بينما انهار جيب الفضاء المتوسع الذي لطالما وُجدت فيه. لم أملك سوى ثوانٍ لأعتاد على العملية قبل أن تتغير مجددًا، وكل خطوة للأمام ستزيد العملية تعقيدًا. قالت سيلفي بحزم، وقد شعرت بتوتري، “هيا بنا نساعد.” ومثل تيسيا، لُطخت يداها بدمي. فتحت فمي لأتحدث، لكن دون جدوى. ‘أحتاج فقط… إلى بعض الوقت.’ أومأت سيلفي برأسها. أغمضت عينيها بإحكام. وامتدت القوة والأثير، على هيئة فنونها السحرية، عبر وجه العالم، مُبطئةً الزمن إلى حدّ التنقيط. صدّت قوة مُعاكسة. شهقت سيلفي وهي تفقد تعويذتها، التي تحطمت، مُرسلةً رعشة مُقززة في عمودي الفقري. “ماذا؟” سألت وهي لاهثة. هناك شيءٌ ما قادم. عاصفة رعدية من المانا والأثير، بالكاد تُكبح. تنزل من أفيتوس. “ماير،” قلت، والاسم خشن في حلقي. كان كل أثيري تقريبًا خارج جسدي، مُشكلًا الأيدي الميتافيزيقية التي استخدمتها لتشكيل أفيتوس في الأعلى والمقابر الأثيرية في الأسفل. لهذا السبب لم أكن أُشفى. سحب ريجيس ما يحتاجه لتفعيل الدمار وتمكيني من توجيهه، لكنني لم أحتفظ إلا بما يكفي لإبقاء جسدي المنهك حيًا. الآن، جاهدتُ لأستعيد ما يكفي للدفاع عنا. إذا هاجمت ماير… “آرثر لوين،” دوى صوتها في الجو، عميقًا ورنانًا ومليئًا بالألم. “لقد شعرتُ بموت كيزيس، لكن لا بد أن أعرف… كيف مات؟ هل كان أغرونا؟” حملت كلماتها نبرة حادة لكنها متوسلة. نظرتُ إلى النار المشتعلة خلف عينيها، غير قادر على الخوف. “لقد قتلتُه.” كان هناك نفس طويل، كعاصفة في مقدمة العاصفة، قبل أن تجيب بصوت مرتجف. “لقد جلبناك بيننا. عاملناك كما لو كنت واحدًا منا. درّبناك وربيناك. دعوناك إلى أقدس أماكننا. جعلناك واحدًا منا. وأنتَ تُكافئنا بقتل الرجل الذي حافظ على هذا العالم آمنًا لفترة طويلة؟” ملاحظًا فكرتُ، الجدير بالذكر أنها لم تسأل عن السبب. أكملت ماير هبوطها، وهي ترفرف كورقة في مهب الريح. كان وجهها كسحابة رعدية، وعيناها كبرقين. “جدتي!” صرخت سيلفي، وهي تحلق بيني وبين ماير. “أنتِ تعلمين أنه لم يكن لديه خيار. أنتِ تعرفين أكثر من أي شخص آخر القرارات التي اتخذها كيزيس، والتي كان سيتخذها مجددًا. لكن إن لم تسمحي لنا بإنهاء ما نفعله، فسيموت كل من بقي هنا، بمن فيهم جميع أفراد شعبك. موت كيزيس لن يعني شيئًا!” كلما اقتربت ماير، بدت أصغر. لم تكن الملكة الشابة اللامعة التي تقف بجانب كيزيس في قاعة العرش، لكنها لم تكن تمامًا الشيخة الذابلة التي قابلتها لأول مرة. بدت عجوزًا -قديمة- لكنها غير مروضة. في تلك اللحظة، ربما لأول مرة، فهمت حقًا لماذا كنا نعتبر الأزوراس طواغيتًا علينا. رغم أن اللحظة كانت مشحونة، وكأننا على حافة سكين، لم أستطع إيقاف ما كنت أفعله. انفتح المستوى الأول بأكمله من المقابر الأثيرية عبر البوابة التي يبلغ ارتفاعها الآن مائتي قدم. باستخدام الأثير للتحكم في وفرة مانا سمة الأرض، سحبتُ حجارة من الجبال نفسها، ولففت حول الجانب المفتوح من تايغرين كايلوم وملأته، مشكلًا قاعدة الصرح. من بعيد جدًا، استطعتُ سماع صرخات وتوسلات أولئك الذين شردتهم للتو. أما أفيتوس فأصعب. احتجت إلى سيلفي لإبطاء اندفاعها نحو هذا العالم، لأن التشكيل كان دقيقًا. حددت حسابات جي-إي شريطًا من الأرض بعرض مائة وأربعة وأربعين ميلًا بالضبط. بالفعل، تجاوزت الحافة جبال ناب باسيليسك بكثير وكانت تقترب. أما عن الشواطئ الشرقية لألاكريا، فلم يكن أمامي سوى لحظات لأجعل المجمع ينقسم إلى ثاني ثلاثة تشكيلات مطلوبة لإنقاذ أفيتوس. ‘أشعر بضعف شديد… يا رجل،’ فكّر ريجيس. لم يكن أمامه هو وسيلفي خيار سوى التعايش داخل شبكة مناورة الملك، مع أنهما اضطرا إلى الحفاظ على مسافة ذهنية بينهم وإلا خاطرا بانهيار عقولهما وهما يحاولان متابعة جميع أفكاري دفعة واحدة. كانت ماير أمامنا مباشرة الآن، مع أنني لم ألحظ حركتها. تعلقت عيناها بحالتي -الدم، والطيران المرتجف، والأثير الصغير الذي يدعم هيئتي الجسدية. كانت هذه هي اللحظة التي سأعرف فيها من هي حقًا، في النهاية. من ستختار أن تكون. “أنت تقتل نفسك،” قالت بصوت أجش. هل هذا ندم أم ارتياح في نبرتها؟ لم أستطع الجزم. “لن تكون… المرة الأولى،” خنقت نفسي. رمقت عينيها تيسيا، ثم استقرت على سيلفي. “أنا آسفة يا ابنة ابنتي. أعرف.” أغمضت عينيها، وأطلقت نفسًا خافتًا. “أعرف.” أومأت سيلفي، بعينيها الثابتتين اللامعتين، برأسها لجدتها إيماءة خفيفة، ثم عادت قوتها لتمتد، وهذه المرة لم تتحرك ماير لإيقافها. قاومت سيلفي عاصفة الأثير الهادرة التي أطلقتها للتو، وتمسكت بالرابط بيننا بقوة في ذهني، لا أشاركها أفكاري بل أضمها إلى وعيي، رابطي بالمسارات الأثيرية من خلال خطوة الحلكم وتكوينات أفيتوس والمقابر الأثيرية من خلال رونية الفضاء. من خلالي، وصلت قوتها إلى أبعد أركان العالمين، ومع أنها لم توقف الزمن، إلا أنها خففت من وطأة مروره، مانحةً إياي وقتًا لأُحوّل المعلومات الخام والحسابات إلى واقع ملموس. مع مرور أول شريط من الأرض فوق الساحل، بحثت عن خط التماس الذي يُمثل نقطة الانتقال التي أحتاجها. “عائلتي؟” سألتُ ماير وأنا أُركّز. قالت، “آمنة،” بنبرة خشنة تحت وطأة إرهاقها. انتظرتُ المزيد، أردتُ أن أسأل المزيد، أن أطلب منها أن تشرح، لكن إجابتها المختصرة استغرقت كل وقتي قبل أن أجد ما أبحث عنه، وعاد تركيزي كله إلى أفيتوس. انقسمت الأرض التي تُحيط بالسماء، فلم تعد أفيتوس شريطًا واحدًا، بل شريطين، يتشكل الشريط الثاني بزاوية 36 درجة بالضبط وهي تتجه الآن نحو الجنوب الشرقي. تطلبت حلقة ثانية طبقةً أخرى من الأثير الداعم، وتدفقًا جديدًا من الدمار وقداس الشفق. ضاقت الشبكة المتشابكة التي تُشكّل الآن مناورة الملك مع شدّة الضغط عليها في كل اتجاه. انزلق ضيق الوقت القصير لسيلفي مجددًا وهي تأخذ قسطًا من الراحة. بجانبي، تيسيا، لا تزال متشبثه بذراعي، ترهلت. هبط رأسها على كتفي المدرع بقوة شديدة، مما أدى إلى قطعها فوق الحاجب. كانت عيناها مشتتة؛ لم يبدو أنها لاحظت ذلك حتى. جذبتها بقوة أكبر إلى جانبي، غير متأكدٌ مما إذا كان بوسعها دعم نفسها. ‘تيس. تيسيا…؟’ “أنا… بخير.” كانت أفكارها تتسرب وبطيئة. “الضغط على أنظمتها الجسدية هائل،” قاطعت جي-آي. “هذا الهيكل -ما أنا عليه الآن- لم يكن من المفترض أن يُحتجز في مسكن عضوي. كمية المعلومات تحرقها من الداخل.” “قلت إنني بخير،” ردت تيسيا بسرعة، ورفعت رأسها عن كتفي ودفعت بعيدًا عني، على الرغم من أنها لم تطلق ذراعي تمامًا. كان جانبها الآن ملطخًا بدمائي -ودمائها. “أنا بخير أيضًا، شكرًا لسؤالك،” قال ريجيس ساخرًا بما يعادل سعال الدم في ذهنه. طفت ماير حولنا، وحاجباها مقبوضان قلقًا. “دعني أساعدكم.” رفعت يدها لتمنع أي جدال. “أفهم. الأمر لا يتعلق بالتحالف أو التسامح، بل بالبقاء. لقد دُفع أعظم ثمن لشراء مستقبل شعبي. لن أضيعه.” لم تنتظر أي رد آخر. دارت المانا حول يدها المرفوعة، مشرقة وقوية . استجابت نفحة من الأثير، والتأمت جروحنا ببطء. ارتسمت حاجبا ماير أكثر، وانخفضت شفتاها في عبوس عميق من التركيز. تضخم المانا، لكن الأثير بالكاد تفاعل. أدركت أنها كانت تستنفذ كل تركيزها لمجرد شفاء أصغر جروحنا. “ركزي على تيس،” قلتُ بصوت مرتجف. ترددت ، ثم حولت انتباهها بالكامل إلى تيسيا. خفّ الدم المتساقط من أنف تيس ، وخفّ تعبيرها قليلًا. لكن عندما رحل عني ضغط الشفاء اللطيف فجأة، وجدت نفسي أختنق. نظرتُ من الأعلى، فرأيتُ عينيّ تتدحرجان إلى محجريهما. تضاعف ضغط عالم الأثير فجأةً، ثم تضاعف ثلاث مرات. بدأت الأقسام الأولى من الطابق الثاني من المقابر الأثيرية بالظهور عبر البوابة، وانفجر المبنى -وهو نُزُل من طابقين كان قائمًا على حافة فناء المدخل- وتحول إلى أنقاض. بالكاد تمكنتُ من حماية العشرات من الأشخاص الذين كانوا محشورين في الداخل من الانهيار، ولففتهم بالأثير. تصدّعت الأرض تحتهم بينما زحفت كرومٌ ضخمة خضراء زمردية اللون لتقتلعهم من الهواء. ارتجفت تيسيا من جهد الاستحضار، وإرادتها الوحشية تغلي في داخلها. في إحدى زوايا شبكة خيوط الأفكار المنسوجة، أدركتُ أنه بينما كنتُ أسحب من المقابر الأثيرية، سمح ذلك للنهر الأثيري بمزيد من الحرية للالتواء والانعطاف، مزيلًا الحواف المجازية كما لو أن حيواناتٍ تحفر جحورًا تُهين شاطئ نهر حقيقي. انحنيتُ نحو الوزن غير المتوقع، لأستعيد توازني. تكيفت الحسابات المتدفقة إليّ من جي-آي في منتصف التيار لاستيعاب زيادة الضغط. بات هناك وفرة من الأثير تتدفق الآن، تتدفق من البوابة وحول حواف أفيتوس، ولكن مثل النهر الأثيري، امتلك جاذبيته الخاصة، أقوى من أن أستغلها. لا بد من وجود طريقة ما لتحييده، لكنني كنت قد وصلت إلى نهاية قدرتي على التركيز والتفكير في المعلومات الجديدة. “آرثر.” نظرتُ حولي في حيرة. الجدة سيلفيا؟ لكن لا، بالطبع لا. التقت عينا ماير، وقد نسيت وجودها للحظة بينما كان عقلي مشدودًا إلى حافة الانهيار. “أنت تجوعني،” قالت بهدوء لكن بقوة. “الأثير بالكاد يتفاعل معي. أنت تسيطر عليه كله. أنت و… أي شيء آخر هنا، معنا. “القوة تحاول أن تأتي من خلال أفيتوس.” لقد فهمتُ. ما تبقى من الأثير الجوي القليل كان قد استُخدم في الثواني الأولى من هذا الحدث، حتى قبل أن أكسر الطبقة الخارجية من نواتي لأُطلق الأثير المُخزّن. لم يتبقَّ سوى الأثير الخاص بي، مُوَجَّهًا عبر الرونيات ليؤثر على المقابر الأثيرية وأفيتوس. بالطبع، لم تكن ماير أكثر قدرة مني على الوصول إلى الأثير المُحيط بأطراف العالم. “لكن لا يزال بإمكاني مساعدتك يا آرثر.” أشرقت عيناها، يأس وندم يمتزج بشعور بالخسارة والقبول. ثم بدأت عيناها في النمو، والوجه من حولها، يتسع ويستطيل. طالت رقبتها، وتمدد جسدها بسرعة، وأصبحت أثوابها المتدفقة قشورًا عريضة بيضاء ناصعة. امتدت الأجنحة خلفها، تنبض ببطء وتدور مانا الهواء. لمعت الأحرف الرونية الذهبية على وجهها التنيني، وعلى رقبتها الطويلة، وفوق أجنحتها العريضة. حدقت في عينيها الأرجوانيتين الآن. أشرقت العلامات الذهبية حولهما، ثم خفتت واختفت تمامًا في النهاية. انطلق لسانها، مخترقًا درعي ولحمي وعظامي. على عكس سيلفيا، لم تكن قادرة على اختراق نواتي بنفسها. بدلًا من ذلك، كان عليّ أن أسمح لها بالدخول. تجمدت في لحظة من الرعب الذي أتذكره، كدت أرفضها. ثم… وصلت مرة أخرى إلى قبضة من الأثير حول نواتي. عندما هدد عالم الأثير بالانفجار وهدد جسدي بالفشل، كنت بحاجة إلى المزيد من الأثير. كان هناك أقل منه في الطبقة الثالثة من الرابعة، ولكن… قبضت على نفسي، وتحطمت الطبقة الخارجية من النواة. لم تلتئم جروح المرة الماضية، لذلك لم يكن الأثير بحاجة إلى اتباع قنواتي، بل اتبع الجروح الممزقة التي تمزق جسدي. اخترق لسان ماير قلبي أخيرًا، كما فعلت سيلفيا منذ زمن بعيد. ارتفعت خيوط من الدخان الذهبي من صدري، متلألئة بشرارات الجمشت. عندما انسحبت، فُقد دم الجرح في بحر اللون الأحمر المتشبث بي ويتسرب بين قشور درعي الأثري. بينما بدت سيلفيا متألمة وضعيفة في أعقاب نقل إرادتها، بدت ماير بطريقة ما أكثر روعة. تلاشى اللون الذهبي، وكذلك اللون الأرجواني اللامع لقزحيتيها، لكن التنينة الييضاء العجوز التي تحوم أمامي الآن لم تكن أقل وحشية وقوة. “أتمنى أن تنعم بالحكمة لاستخدام هذه البصيرة أفضل مما استخدمتُها أنا في آلاف السنين، يا آرثر ليوين.” شعرتُ ببريق إرادتها الذهبي يستقر داخل الطبقتين المتبقيتين من نواتي الأثيرية، دافئًا ومريحًا. “جدتي…” لم تكن الكلمات هذه المرة كلماتي، بل كلمات سيلفي. ومع ذلك، في هذه اللحظة، حملت نفس الطاقة اليائسة التي شعرتُ بها وأنا في الرابعة من عمري أشاهد سيلفيا تضحي بنفسها لإنقاذي من كاديل دون أن أفهم. لم تكن هناك كلمات أخرى. ابتعدت ماير وحلقت إلى قاعدة المقابر الأثيرية التي لا تزال تتشكل. كنتُ أعرف بلا شك أنها تبحث عن كيزيس. مددتُ يدي نحو بريق إرادتها الذهبي، وفعّلته. غمرتني موجة من الطاقة، وظهرت رونية ذهبية على درعي ورقبتي، متشابكة مع رونية قلب العالم. أحسستُ بقوى الحياة لدى رفاقي، وماير نفسها، والآلاف القليلة من الأشخاص الذين جُلبوا بالفعل من المقابر الأثيرية، مُكدّسين كقطع الووغارت في الطبقة المُشكّلة حديثًا من المقابر الأثيرية المادية. مع انعطافٍ في الفضاء، فتحت الطريق إلى ما كان في السابق مخزنًا للآثار المقدسة لأغرونا. تراكم جزء كبير من الطاقة المُطلقة من طبقتي الأساسية الثالثة بداخلي وحولي، مع أن معظمها قد تدفق عبر المسارات الأثيرية لدعم رونياتي في الأعلى والأسفل. جذبتُ تلك الطاقة إلى داخلي، وضبطتها لشفائي. كانت قوة حياة تيسيا ضعيفة، ونبضها بطيء، على الرغم من قوة المانا لديها. مع تفعيل إرادة ماير، شعرتُ بالمسافة بيننا، وحرارة قوة حياتها، وعندما دفعتُها بالأثير، تدفقت إلى تيسيا. أضاءت جروحها كما لو أنها سُحبت في النار خلف… عيون. وجهتُ الأثير إليهما -إلى أعصابها ومشابكها العصبية، وإلى نسيج عقلها المليء بالتمزقات الدقيقة. تنفستُ الصعداء على الفور. كانت المباني والشوارع تندفع من البوابة الآن. باستخدام رونية الفضاء، أعدتُ بناء المنطقة الشبيهة بالمدينة داخل وحول بقايا تايغرين كايلوم. تلاعب الأثير بالمانا لاستحضار وتشكيل الحجر، ونحت الدمار ما هو غير ضروري أو غير صالح للاستخدام، وأعاد قداس الشفق بناء ما تبقى، وأعاد الفضاء تشكيل الواقع المادي للمنطقة. مستشعرًا اقتراب نقطة الترسيم التالية في أفيتوس، استعدتُ لتوسيع عقلي المكتنز أكثر. مدت سيلفي يدها بفن الأيفوم، متحديةً إبطاء الوقت، مانحةً إياي لحظةً لأستعد. سيُنزع شريط ثالث من الأرض عن الآخرين، يمتد هذا الشريط من الجرح بزاوية ستة وثلاثين درجة شمال الأول. امتدت قوتي الآن عبر العالم حيث اقترب الشريط الأول من الأرض من ديكاثين. ومع انغماس ذهني في المسارات الأثيرية عبر خطوة الحاكم، شعرت مرة أخرى وكأنني أرى القارتين بالكامل. رأيت سيث ومايلا بين الحشود في بلدة ميرين، لم يعودا يتعرضان للقصف من أنقاض أفيتوس وبدلًا من ذلك يشاهدان في رهبة بينما تمتد الأرض عبر السماء فوقها؛ الجلايدرز محاطون بمجلسهم على شرفة قصر إيتيستين، ويشاهدون جميعًا بخوف بينما تلقي أفيتوس بالظل على المدينة؛ إيفاسير، العملاق الشاهق الذي كان يحرس الموقد، يذبح وحش مانا أفيتوس بينما كان فينسنت وتابيثا وليليا هيلستيا يشاهدون في رعب، وقد انهار نصف منزلهم خلفهم؛ هيلين ودوردن يقودان الهجوم ضد وحش ضخم مقرن من النار والحجر الداكن يقترب من بلاك بيند؛ الجدار، سقط، مدفونًا تحت الجبل؛ أناكاشا من عشيرة ماتالي تسحب والدها أنكور، الذي فقد وعيه، بعيدًا عن مبنى مهدم؛ وسادات الأزوراس العظماء، كلٌّ منهم يقف في قلب مملكته. لكنني لم أرَ أمي ولا أختي. كل ما كنتُ أثق به هو صدق ماير، وأنهما في مأمنٍ تام. أُخرج الطابق الثاني تقريبًا من المقابر الأثيرية من عالم الأثير، الذي أصبح الآن بمثابة قرية تُحيط بقاعدة المبنى الجديد الذي بدأ بالظهور تدريجيًا. انتشرت في ذهني خريطة للمقابر الأثيرية كما رآها جي-آي، إلى جانب مخطط يُمكّننا من إنقاذ الجزء المهم من كل منطقة، مما يضمن عدم ضياع المعرفة الأثيرية التي ساهمت في إنشائها. والأهم من ذلك، وضع الأسس التي سيرتكز عليها كل ما آمل تحقيقه قريبًا. كان آخر مبنى خرج من المستوى الثاني هو عقار غراهنبل، المزدحم الآن بمن افترضت أنهم لاجئون مختبئون. مع بقاء إرادة ماير نشطة، شعرت بكل حياة بداخله عن كثب، كما لو كانت أصابعي على نبضهم. كنت لا أزال أطوي العقار إلى مدينة عندما هز انهيار المساحة التي كانت تحتوي على المستوى الثاني، البوابة. اندفع النهر الأثيري، المتعرج عبر الفراغ الأثيري على الجانب الآخر من البوابة، مرة أخرى، وارتجف الواقع نفسه. وبينما يهزني الاهتزاز، ظهرت خيوط ذهبية في رؤيتي مرة أخرى. تبعتها حواسي إلى حيث التقت، صورة ظلية مصنوعة بالكامل من خيوط القدر الملفوفة بإحكام والمخبأة في محيط الشمس، مرئية بين شريطين من شرائط الأرض المتوسعة باستمرار أعلاه. كأنه يستشعر انتباهي، دوى صوت القدر في رأسي. ’غراي. آرثر ليوين. لقد جئتُ لأشكرك. لقد حقق أداؤك كل التوقعات العملية.’ شعرتُ بنفسي أبتعد أكثر فأكثر عن جوهر ذاتي، ورؤيتي -التي لا تزال تنظر إلى الأسفل من الأعلى- تطفو بعيدًا عن جسدي وحضور رفاقي. ‘إنه أنت. النهر. أنت تدفع من الجانب الآخر.’ شعرتُ بغضبي كشيء بارد وبعيد يتسلل عبر طبقات مناورة الملك. ‘لماذا؟ كان بيننا اتفاق.’ ‘رؤيتك للمستقبل كانت شيئًا رائعًا، لكنها لا يمكن أن تنتهي إلا بهذه الطريقة. مع أن أجغرونا هو من بدأ العملية، فقد أكملتَ عملية ثقب الحاجز تمامًا، والآن قد يخرج الأثير مرة أخرى إلى العالم لينتشر ويستقر، مُطلقًا الضغط القسري الطويل. ضرورة الإنتروبيا.’ ‘على حساب هذا العالم بأكمله.’ أردتُ أن أصرخ بالكلمات، لكن العاطفة اللازمة لم تكن موجودة. ‘كل العوالم تموت. كل النجوم تحترق.’ سرى همهمة كشط عبر الخيوط الذهبية. ‘يمكنك أن ترتاح وتستسلم الآن يا آرثر. لقد فعلتَ كل ما هو مطلوب منك. إذا كانت ميولك الفانية تتطلب ذلك، ففكر في أنك ربما أنقذت الكون كله المعروف والمجهول على حساب عالم صغير واحد.’ مزق الأثير حواف البوابة، ممزقًا إياها أكثر، وغمر حدود أفيتوس، يهزها كزلزال. ‘عالم صغير واحد؟’ حدقت في شكل خيوط ذهبية. ‘لكنك من هذا العالم. كل تلك العقول والأصوات التي تتحد لتكوينك، هي من هذا العالم. كل من وُجد ليصبح جزءًا منك. بالتأكيد لا تزال هناك رغبة في حمايته؟’ لم يكن هناك أي توقف. لا تلميح إلى أن كلماتي قد أثارت بعض التفكير داخل الكيان اللاإنساني. فقط… ‘لا.’
---
ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن
أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات