رابطة الحديد
رابطة الحديد
جلستُ في مؤخرة عربة "آبِنثي". كانت مكانًا رائعًا بالنسبة لي، موطنًا لمئة زجاجة وحُزمة، مشبّعًا بألف رائحة. وبالنسبة لعقلي الصغير، كان الأمر عادةً أكثر تسلية و متعة من عربة "الصنائعيّ"، لكن ليس اليوم.
فقد هطلت أمطار غزيرة في الليلة السابقة، وصار الطريق مستنقعًا كثيفًا من الوحل و الطين. وبما أن الفرقة لم تكن مقيّدة بجدول زمني محدد، قررنا الانتظار ليوم أو يومين لإعطاء الطرق فرصة كي تجف. كان هذا أمرًا شائعًا إلى حدٍّ ما، وتصادف أن وقع في الوقت المثالي و المناسب تماما كي يُكمل "بن" تعليمي. وهكذا جلستُ عند الطاولة الخشبية في مؤخرة عربة "بن"، وأخذت أتحرّق ضيقًا من تضييع اليوم في الاستماع إليه و هو يحاضرني عن أشياء كنتُ أظن أنني أفهمها و أعرف عنها سلفًا.
لا بد أن أفكاري كانت واضحة و ظاهرة على وجهي، لأن "آبِنثي" تنهد وجلس إلى جانبي. قال: "ليس تمامًا كما توقّعت، أليس كذلك؟"
استرخت عضلاتي قليلًا، فنبرته كانت تعني هدنةً مؤقتة من المحاضرة. جمع حفنة من قطع الحديد الصغيرة الموضوعة على الطاولة، وصار يُحدث بها صوتًا خفيفًا وهو يُقلبها بين يديه.
نظر إليّ وقال: "هل تعلّمتَ التلاعب بالأشياء في الهواء دفعةً واحدة؟ خمس كرات معًا؟ والسكاكين أيضًا؟"
احمرّ وجهي قليلًا عند تذكّر ذلك. "تريب" لم يسمح لي حتى بتجربة ثلاث كرات في البداية. جعلني أبدأ باثنتين فقط. بل وأسقطتهما عدة مرات. وأخبرتُ "بن" بذلك.
قال "بن": "حسنا. أتقن هذه الخدعة، وستنتقل لتعلُّم أخرى."
كنتُ أتوقّع أن ينهض ويعود إلى الدرس، لكنه لم يفعل. بدلا من ذلك، مدّ يده الممتلئة بكرات الحديد الصغيرة.
وقال: "ماذا تعرف عن هذه؟" ثم أحدث بها صوتًا متناغمًا في يده.
سألته: "من أي ناحية؟ ماديًّا، كيميائيًّا، تاريخيًّا..."
قال وهو يبتسم: "تاريخيًّا، أذهلني بفهمك الدقيق لتفاصيل التاريخ، أيها الـ'إلير'."
كنتُ قد سألته مرةً عن معنى "إلير". زعمَ أنها تعني "الحكيم"، لكنني شككتُ في ذلك من طريقة التواء فمه و تعبيره عندما قالها.
بدأتُ أقول: "منذ زمن بعيد، كان الناس الذين..."
فقاطعني: "كم من الزمن؟"
عبستُ في وجهه متصنّعًا الجدية: "منذ حوالي ألفَي عام. القبائل الرُحَّل و البدو التي كانت تجوب سفوح جبال 'شالدا' توحّدت تحت راية زعيم واحد."
قال: "وما كان اسمه؟"
أجبت: " 'هِيلدرِيد'(Heldred). وابناه كانا هِيلدِيم (Heldim) وهِيلدَار (Heldar). هل ترغب في معرفة نسَبه الكامل، أم أدخل في صلب الموضوع؟" رمقته بنظرة متجهّمة.
قال بنبرة اعتذار: "عذرًا، سيدي." ثم اعتدل في جلسته وتعمّد أن يبدو في غاية الانتباه و الاهتمام، حتى انفجرنا كلانا ضاحكَين.
تابعتُ الحديث من جديد: "هِيلدرِيد سيطر في نهاية المطاف على سفوح جبال 'شالدا'. وهذا يعني أنه سيطر على الجبال نفسها. بدأوا يزرعون المحاصيل، وتخلّوا عن نمط حياتهم البدوي، وشيئًا فشيئًا بدأوا..."
قال "آبِنثي" مقاطعًا وهو يلقي قطع الحديد الصغيرة على الطاولة أمامي: "تدخل في صلب الموضوع؟"
تجاهلتُه قدر المستطاع، وواصلت: "لقد سيطروا على المصدر الوحيد المتوفّر للمعادن والذي هو سهل الوصول إليه في منطقة واسعة، وسرعان ما صاروا أمهر مَن عَمل بهذه المعادن. استغلوا هذا التفوّق وجمعوا ثروة ونفوذا كبيرين.
"حتى تلك اللحظة، كانت المقايضة هي الطريقة الأكثر شيوعًا للتجارة. بعض المدن الكبرى سكّت عملاتها الخاصة، لكن خارج تلك المدن، لم تكن النقود تساوي إلا وزن المعدن المصنوعة منه. كانت قضبان المعدن وسيلة مقايضة أفضل، لكنها كانت ثقيلة وغير مريحة في الحمل."
أخذ "بن" يرمقني بنظرة الطالب المملّ من الدرس. لم يُضعف التأثير كثيرًا سوى حقيقة أنه قد أحرق حاجبَيه مجددًا قبل يومين فقط.
قال: "ألن تبدأ الآن في الحديث عن مزايا العملة التمثيلية؟"
أخذت نفسًا عميقًا، وعزمتُ ألا أضايقه و أزعجه كثيرًا عندما يكون هو مَن يُلقي عليّ المحاضرة. "الشعب الذي لم يعُد رحّلا و بدْوا، وكانوا يُعرفون حينها بـ 'السيالديم'(Cealdim)، كانوا أول من وضع عُملة موحدة ومعيارية. بقطع واحدة من تلك القضبان الصغيرة إلى خمسة أجزاء، تحصل على خمس قطع تُسمّى 'دراب'."
بدأتُ أُرتّب صفَّين من خمس درابات لأوضح فكرتي. كانت تُشبه سبائك معدنية صغيرة. "عشر 'درابات' تعادل 'جوت' نحاسي، وعشر 'جوت'..."
قاطعني 'بن' قائلًا: "كفى، جيد بما في الكفاية"
ففزعتُ من المقاطعة المفاجئة. ثم مدّ يده وأمسك بقطعتَين قائلاً:
"هاتان 'الدرابتان'، يمكن أن تكونا قد جاءتا من نفس القضيب المعدني، أليس كذلك؟"
قلتُ: "في الواقع، على الأرجح أنهما صُبّتا بشكل منفصل..." ثم سكتُّ تحت وطأة نظرة التهديد.
"نعم، بالتأكيد."
قال: "إذًا، لا بد أن هناك شيئًا لا يزال يربطهما، أليس كذلك؟" ونظر إليّ مجددًا بنفس النظرة.
لم أكن مقتنعًا حقًا و لم أوافقه الرأي تمامًا، لكنني كنتُ أعرف أن الجدال ليس مجديًا وقتها، فقلت: "صحيح."
وضع القطعتَين على الطاولة وقال: "إذا حرّكتَ واحدة منهما، لا بد أن الأخرى ستتحرّك معها، أليس كذلك؟"
وافقتُ على سبيل الجدل، ومددتُ يدي لأحرّك إحداهما، لكن "بن" أوقفني، وهزّ رأسه نافيًا. قال: "يجب أن تُذَكِّرهم أولًا. بل عليك أن تُقنعهم، في الواقع."
أخرج وعاءً وصبّ فيه قَطرة كثيفة من صمغ شجرة الصنوبر. ثم غمس إحدى الدرابتين فيه، وألصق الأخرى بها، وتفوَّه ببضع كلمات لم أفهمها، وراح يفصل القطعتين ببطء، بينما خيوط الصمغ تمتد بينهما.
ثم وضع إحداهما على الطاولة، محتفظًا بالأخرى في يده. تمتم بشيء آخر، ثم استرخى.
رفع يده، فإذا بالدراب الموضوعة على الطاولة تُقلّد الحركة.
حرّك يده في الهواء، فبدأت قطعة الحديد البنيّة تتمايل وتطفو في الهواء.
نظر إليّ، ثم إلى القطعة النقدية. قال: "قانون السمباثي هو أحد أبسط أُسس السحر. ينصّ على أنه كلما زادت درجة التشابه بين جسمَين، زادت قوّة الرابط السمباثي بينهما. وكلما زاد الرابط، زاد تأثير أحدهما في الآخر."
قلتُ: "تعريفك دائريّ."
وضع القطعة المعدنية جانبًا. ثم تخلّى عن قناع الأستاذ المُحاضر، وابتسم وهو يحاول، بنجاح محدود، أن يمسح الصمغ عن يديه باستخدام خرقة. ظلّ يفكّر قليلًا، ثم قال: "يبدو الأمر عديم الفائدة، أليس كذلك؟"
هززتُ رأسي بنوع من التردد — فالألغاز المغرِضة و الأسئلة الخادعة كانت شائعة في دروسه.
سألني بعينين تتقدان: "هل تفضّل أن تتعلّم كيف تستدعي الريح؟"
ثم همس بكلمة، فاهتزّ سقف العربة القماشي من حولنا.
شعرتُ بابتسامة مفترسة تستولي على وجهي.
قال ساخرًا: "يا للأسف، إلير." وارتسمت على وجهه ابتسامة متوحشة، شرسة.
"عليك أن تتعلّم الحروف قبل أن تكتب. عليك أن تتقن مواضع الأصابع على الأوتار قبل أن تعزف وتغنّي."
أخرج ورقة، ودوّن عليها بضع كلمات. ثم قال: "السرّ في تثبيت الآلار في ذهنك. يجب أن تؤمن بأنهما متصلان. بل يجب أن تعرف أنهما كذلك بالفعل."
ناولني الورقة. "ها هي طريقة النطق الصوتي. يُسمّى هذا: الربط السمباثي للحركة المتوازية. تدرّب عليه."
كان يبدو أكثر شبها بالذئب من ذي قبل — عجوزًا خبيرًا، خالي الحاجبَين.
ترك الغرفة و غادر ليغسل يديه. أما أنا، فبدأتُ أُفرغ ذهني باستخدام تقنية "قلب الحجر" — وسرعان ما وجدتني أطفو على بحر من الهدوء اللا مبالي.
ألصقتُ القطعتين المعدنيتَين باستخدام صمغ الصنوبر. ثم ثبّتُّ في عقلي الآلار — ذلك اليقين، مثل سوط يمتدّ داخل النفس — بأن القطعتين متصلتان.
نطقتُ بالكلمات، فرّقت بين القطعتين، نطقتُ الكلمة الأخيرة... وانتظرت.
لم أشعر بأي اندفاع للقوة و لا أي إحساس.
لا ومضة حرارة أو برودة. لا شعاع متلألئ من الضوء أصابني.
كنتُ محبطًا بعض الشيء. أو على الأقل، بقدر ما يُمكن أن أشعر بالإحباط وأنا في حالة "قلب الحجر".
رفعتُ القطعة النقدية التي في يدي... فارتفعت الأخرى على الطاولة بنفس الطريقة.
كان سحرًا، لا شكّ في ذلك. لكني لم أشعر بالانبهار. كنت أتوقّع شيئًا آخر... لا أعلم بالتحديد ما الذي كنت أتوقّعه، لكنّه بالتأكيد لم يكن هذا.
قضيتُ بقيّة اليوم وأنا أُجري تجارب على الربط السمباثي البسيط الذي علّمني إيّاه "آبنثي".
اكتشفت أن أي شيء تقريبًا يمكن ربطه بأي شيء آخر: قطعة حديد من فئة "دراب" مع عملة فضية من فئة "تالنت"، حجر مع ثمرة فاكهة، طوبتان، كتلة ترابية مع أحد الحمير.
واحتاج الأمر حوالي ساعتين لأكتشف أن صمغ الصنوبر لم يكن ضروريًا.
وعندما سألت "بن"، أقرّ بذلك — وقال إنه مجرد وسيلة للمساعدة على التركيز. أظنّه دُهش و تفاجأ لأنني اكتشفت ذلك وحدي دون أن يخبرني.
دعني أختصر لك مفهوم السمباثي بسرعة — على الأرجح، لن تحتاج يومًا إلى أكثر من فهمٍ تقريبيّ لكيفيّة عمل هذه الأمور.
أولًا: لا يمكن خلق الطاقة من العدم أو تدميرها.
فعندما ترفع إحدى القطعتين، وترتفع الأخرى معها عن الطاولة، تشعر وكأنك ترفع وزنهما معًا — لأنك، في الواقع، تفعل ذلك.
هكذا هي النظرية. أمّا في التطبيق، فالأمر يبدو وكأنك ترفع ثلاثة أضعاف الوزن.
لا يوجد رابط سمباثي كامل و مثالي. فكلّما اختلف الجسمان، زادت الطاقة المهدورة. تخيّل أن الطاقة تمُرّ في قناة مائية مثقوبة و متسربة تؤدي إلى دولاب مائي لتدويره.
الرابط الجيّد لديه ثقوب قليلة — تُستخدم معظم الطاقة فيه كما ينبغي.
أمّا الرابط الرديء، فهو مليء بالثقوب — فلا يُستفاد من جهدك إلا القليل.
على سبيل المثال: جرّبتُ ربط قطعة طباشير بزجاجة ماء.
لم يكن بينهما أي شبه يذكر بينهما، لذا رغم أن الزجاجة لا تزن أكثر من رطلَين، شعرتُ وكأن الطباشير يزن ستين رطلًا!
أما أفضل رابط وجدته، فكان غصن شجرة قمت بكسره إلى نصفين.
وبعد أن فهمتُ هذا الجانب من السمباثي، علّمني "بن" جوانب أخرى — عشرات وعشرات من روابط السمباثي، ومئات الحِيَل الصغيرة لتوجيه الطاقة. كل واحدة منها كانت بمثابة كلمة جديدة في مفردات لغةٍ شاسعة كنتُ بالكاد أبدأ في تعلّمها.
وفي كثير من الأحيان، كان الأمر مملًا... وصدقًا، لم أُخبرك حتى بنصف الحقيقة.
واصل "بِن" منحي دروسًا متناثرة في مجالات أخرى: كالتاريخ، والحساب، والكيمياء.
لكنني كنت أتشبّث بكل ما يمكنه أن يعلّمني إيّاه عن السمباثي.
كان يُعطيني أسراره بتقتير و اعتدال، لا يُعلّمني خطوةً جديدة حتى أتقنَ السابقة، لكن يبدو أن لدي موهبة طبيعية في ذلك — تتجاوز حتى ميلي الفطريّ لامتصاص المعرفة. لذا، نادرًا ما اضطررتُ للانتظار طويلًا.
لا أريد أن أوحي بأن الطريق كانت دائمًا ممهّدة.
فالفضول نفسه الذي جعلني تلميذًا نَهِمًا و شغوفا، هو ما أوقعني في المشاكل باستمرار.
في إحدى الأمسيات، بينما كنتُ أشعل نار مَوقد الطهي لأمي وأبي، سمعتني أمّي وأنا أتمتم بقصيدة سمعتها في اليوم السابق. لم أكن أعلم أنها خلفي، فسمعتني أطرق قطعة حطب بأخرى وأنا أتمتم شِعرًا دون وعي:
رابطة الحديد
جلستُ في مؤخرة عربة "آبِنثي". كانت مكانًا رائعًا بالنسبة لي، موطنًا لمئة زجاجة وحُزمة، مشبّعًا بألف رائحة. وبالنسبة لعقلي الصغير، كان الأمر عادةً أكثر تسلية و متعة من عربة "الصنائعيّ"، لكن ليس اليوم.
فقد هطلت أمطار غزيرة في الليلة السابقة، وصار الطريق مستنقعًا كثيفًا من الوحل و الطين. وبما أن الفرقة لم تكن مقيّدة بجدول زمني محدد، قررنا الانتظار ليوم أو يومين لإعطاء الطرق فرصة كي تجف. كان هذا أمرًا شائعًا إلى حدٍّ ما، وتصادف أن وقع في الوقت المثالي و المناسب تماما كي يُكمل "بن" تعليمي. وهكذا جلستُ عند الطاولة الخشبية في مؤخرة عربة "بن"، وأخذت أتحرّق ضيقًا من تضييع اليوم في الاستماع إليه و هو يحاضرني عن أشياء كنتُ أظن أنني أفهمها و أعرف عنها سلفًا.
لا بد أن أفكاري كانت واضحة و ظاهرة على وجهي، لأن "آبِنثي" تنهد وجلس إلى جانبي. قال: "ليس تمامًا كما توقّعت، أليس كذلك؟"
استرخت عضلاتي قليلًا، فنبرته كانت تعني هدنةً مؤقتة من المحاضرة. جمع حفنة من قطع الحديد الصغيرة الموضوعة على الطاولة، وصار يُحدث بها صوتًا خفيفًا وهو يُقلبها بين يديه.
نظر إليّ وقال: "هل تعلّمتَ التلاعب بالأشياء في الهواء دفعةً واحدة؟ خمس كرات معًا؟ والسكاكين أيضًا؟"
احمرّ وجهي قليلًا عند تذكّر ذلك. "تريب" لم يسمح لي حتى بتجربة ثلاث كرات في البداية. جعلني أبدأ باثنتين فقط. بل وأسقطتهما عدة مرات. وأخبرتُ "بن" بذلك.
قال "بن": "حسنا. أتقن هذه الخدعة، وستنتقل لتعلُّم أخرى."
كنتُ أتوقّع أن ينهض ويعود إلى الدرس، لكنه لم يفعل. بدلا من ذلك، مدّ يده الممتلئة بكرات الحديد الصغيرة.
وقال: "ماذا تعرف عن هذه؟" ثم أحدث بها صوتًا متناغمًا في يده.
سألته: "من أي ناحية؟ ماديًّا، كيميائيًّا، تاريخيًّا..."
قال وهو يبتسم: "تاريخيًّا، أذهلني بفهمك الدقيق لتفاصيل التاريخ، أيها الـ'إلير'."
كنتُ قد سألته مرةً عن معنى "إلير". زعمَ أنها تعني "الحكيم"، لكنني شككتُ في ذلك من طريقة التواء فمه و تعبيره عندما قالها.
بدأتُ أقول: "منذ زمن بعيد، كان الناس الذين..."
فقاطعني: "كم من الزمن؟"
عبستُ في وجهه متصنّعًا الجدية: "منذ حوالي ألفَي عام. القبائل الرُحَّل و البدو التي كانت تجوب سفوح جبال 'شالدا' توحّدت تحت راية زعيم واحد."
قال: "وما كان اسمه؟"
أجبت: " 'هِيلدرِيد'(Heldred). وابناه كانا هِيلدِيم (Heldim) وهِيلدَار (Heldar). هل ترغب في معرفة نسَبه الكامل، أم أدخل في صلب الموضوع؟" رمقته بنظرة متجهّمة.
قال بنبرة اعتذار: "عذرًا، سيدي." ثم اعتدل في جلسته وتعمّد أن يبدو في غاية الانتباه و الاهتمام، حتى انفجرنا كلانا ضاحكَين.
تابعتُ الحديث من جديد: "هِيلدرِيد سيطر في نهاية المطاف على سفوح جبال 'شالدا'. وهذا يعني أنه سيطر على الجبال نفسها. بدأوا يزرعون المحاصيل، وتخلّوا عن نمط حياتهم البدوي، وشيئًا فشيئًا بدأوا..."
قال "آبِنثي" مقاطعًا وهو يلقي قطع الحديد الصغيرة على الطاولة أمامي: "تدخل في صلب الموضوع؟"
تجاهلتُه قدر المستطاع، وواصلت: "لقد سيطروا على المصدر الوحيد المتوفّر للمعادن والذي هو سهل الوصول إليه في منطقة واسعة، وسرعان ما صاروا أمهر مَن عَمل بهذه المعادن. استغلوا هذا التفوّق وجمعوا ثروة ونفوذا كبيرين.
"حتى تلك اللحظة، كانت المقايضة هي الطريقة الأكثر شيوعًا للتجارة. بعض المدن الكبرى سكّت عملاتها الخاصة، لكن خارج تلك المدن، لم تكن النقود تساوي إلا وزن المعدن المصنوعة منه. كانت قضبان المعدن وسيلة مقايضة أفضل، لكنها كانت ثقيلة وغير مريحة في الحمل."
أخذ "بن" يرمقني بنظرة الطالب المملّ من الدرس. لم يُضعف التأثير كثيرًا سوى حقيقة أنه قد أحرق حاجبَيه مجددًا قبل يومين فقط.
قال: "ألن تبدأ الآن في الحديث عن مزايا العملة التمثيلية؟"
أخذت نفسًا عميقًا، وعزمتُ ألا أضايقه و أزعجه كثيرًا عندما يكون هو مَن يُلقي عليّ المحاضرة. "الشعب الذي لم يعُد رحّلا و بدْوا، وكانوا يُعرفون حينها بـ 'السيالديم'(Cealdim)، كانوا أول من وضع عُملة موحدة ومعيارية. بقطع واحدة من تلك القضبان الصغيرة إلى خمسة أجزاء، تحصل على خمس قطع تُسمّى 'دراب'."
بدأتُ أُرتّب صفَّين من خمس درابات لأوضح فكرتي. كانت تُشبه سبائك معدنية صغيرة. "عشر 'درابات' تعادل 'جوت' نحاسي، وعشر 'جوت'..."
قاطعني 'بن' قائلًا: "كفى، جيد بما في الكفاية"
ففزعتُ من المقاطعة المفاجئة. ثم مدّ يده وأمسك بقطعتَين قائلاً:
"هاتان 'الدرابتان'، يمكن أن تكونا قد جاءتا من نفس القضيب المعدني، أليس كذلك؟"
قلتُ: "في الواقع، على الأرجح أنهما صُبّتا بشكل منفصل..." ثم سكتُّ تحت وطأة نظرة التهديد.
"نعم، بالتأكيد."
قال: "إذًا، لا بد أن هناك شيئًا لا يزال يربطهما، أليس كذلك؟" ونظر إليّ مجددًا بنفس النظرة.
لم أكن مقتنعًا حقًا و لم أوافقه الرأي تمامًا، لكنني كنتُ أعرف أن الجدال ليس مجديًا وقتها، فقلت: "صحيح."
وضع القطعتَين على الطاولة وقال: "إذا حرّكتَ واحدة منهما، لا بد أن الأخرى ستتحرّك معها، أليس كذلك؟"
وافقتُ على سبيل الجدل، ومددتُ يدي لأحرّك إحداهما، لكن "بن" أوقفني، وهزّ رأسه نافيًا. قال: "يجب أن تُذَكِّرهم أولًا. بل عليك أن تُقنعهم، في الواقع."
أخرج وعاءً وصبّ فيه قَطرة كثيفة من صمغ شجرة الصنوبر. ثم غمس إحدى الدرابتين فيه، وألصق الأخرى بها، وتفوَّه ببضع كلمات لم أفهمها، وراح يفصل القطعتين ببطء، بينما خيوط الصمغ تمتد بينهما.
ثم وضع إحداهما على الطاولة، محتفظًا بالأخرى في يده. تمتم بشيء آخر، ثم استرخى.
رفع يده، فإذا بالدراب الموضوعة على الطاولة تُقلّد الحركة.
حرّك يده في الهواء، فبدأت قطعة الحديد البنيّة تتمايل وتطفو في الهواء.
نظر إليّ، ثم إلى القطعة النقدية. قال: "قانون السمباثي هو أحد أبسط أُسس السحر. ينصّ على أنه كلما زادت درجة التشابه بين جسمَين، زادت قوّة الرابط السمباثي بينهما. وكلما زاد الرابط، زاد تأثير أحدهما في الآخر."
قلتُ: "تعريفك دائريّ."
وضع القطعة المعدنية جانبًا. ثم تخلّى عن قناع الأستاذ المُحاضر، وابتسم وهو يحاول، بنجاح محدود، أن يمسح الصمغ عن يديه باستخدام خرقة. ظلّ يفكّر قليلًا، ثم قال: "يبدو الأمر عديم الفائدة، أليس كذلك؟"
هززتُ رأسي بنوع من التردد — فالألغاز المغرِضة و الأسئلة الخادعة كانت شائعة في دروسه.
سألني بعينين تتقدان: "هل تفضّل أن تتعلّم كيف تستدعي الريح؟"
ثم همس بكلمة، فاهتزّ سقف العربة القماشي من حولنا.
شعرتُ بابتسامة مفترسة تستولي على وجهي.
قال ساخرًا: "يا للأسف، إلير." وارتسمت على وجهه ابتسامة متوحشة، شرسة.
"عليك أن تتعلّم الحروف قبل أن تكتب. عليك أن تتقن مواضع الأصابع على الأوتار قبل أن تعزف وتغنّي."
أخرج ورقة، ودوّن عليها بضع كلمات. ثم قال: "السرّ في تثبيت الآلار في ذهنك. يجب أن تؤمن بأنهما متصلان. بل يجب أن تعرف أنهما كذلك بالفعل."
ناولني الورقة. "ها هي طريقة النطق الصوتي. يُسمّى هذا: الربط السمباثي للحركة المتوازية. تدرّب عليه."
كان يبدو أكثر شبها بالذئب من ذي قبل — عجوزًا خبيرًا، خالي الحاجبَين.
ترك الغرفة و غادر ليغسل يديه. أما أنا، فبدأتُ أُفرغ ذهني باستخدام تقنية "قلب الحجر" — وسرعان ما وجدتني أطفو على بحر من الهدوء اللا مبالي.
ألصقتُ القطعتين المعدنيتَين باستخدام صمغ الصنوبر. ثم ثبّتُّ في عقلي الآلار — ذلك اليقين، مثل سوط يمتدّ داخل النفس — بأن القطعتين متصلتان.
نطقتُ بالكلمات، فرّقت بين القطعتين، نطقتُ الكلمة الأخيرة... وانتظرت.
لم أشعر بأي اندفاع للقوة و لا أي إحساس.
لا ومضة حرارة أو برودة. لا شعاع متلألئ من الضوء أصابني.
كنتُ محبطًا بعض الشيء. أو على الأقل، بقدر ما يُمكن أن أشعر بالإحباط وأنا في حالة "قلب الحجر".
رفعتُ القطعة النقدية التي في يدي... فارتفعت الأخرى على الطاولة بنفس الطريقة.
كان سحرًا، لا شكّ في ذلك. لكني لم أشعر بالانبهار. كنت أتوقّع شيئًا آخر... لا أعلم بالتحديد ما الذي كنت أتوقّعه، لكنّه بالتأكيد لم يكن هذا.
قضيتُ بقيّة اليوم وأنا أُجري تجارب على الربط السمباثي البسيط الذي علّمني إيّاه "آبنثي".
اكتشفت أن أي شيء تقريبًا يمكن ربطه بأي شيء آخر: قطعة حديد من فئة "دراب" مع عملة فضية من فئة "تالنت"، حجر مع ثمرة فاكهة، طوبتان، كتلة ترابية مع أحد الحمير.
واحتاج الأمر حوالي ساعتين لأكتشف أن صمغ الصنوبر لم يكن ضروريًا.
وعندما سألت "بن"، أقرّ بذلك — وقال إنه مجرد وسيلة للمساعدة على التركيز. أظنّه دُهش و تفاجأ لأنني اكتشفت ذلك وحدي دون أن يخبرني.
دعني أختصر لك مفهوم السمباثي بسرعة — على الأرجح، لن تحتاج يومًا إلى أكثر من فهمٍ تقريبيّ لكيفيّة عمل هذه الأمور.
أولًا: لا يمكن خلق الطاقة من العدم أو تدميرها.
فعندما ترفع إحدى القطعتين، وترتفع الأخرى معها عن الطاولة، تشعر وكأنك ترفع وزنهما معًا — لأنك، في الواقع، تفعل ذلك.
هكذا هي النظرية. أمّا في التطبيق، فالأمر يبدو وكأنك ترفع ثلاثة أضعاف الوزن.
لا يوجد رابط سمباثي كامل و مثالي. فكلّما اختلف الجسمان، زادت الطاقة المهدورة. تخيّل أن الطاقة تمُرّ في قناة مائية مثقوبة و متسربة تؤدي إلى دولاب مائي لتدويره.
الرابط الجيّد لديه ثقوب قليلة — تُستخدم معظم الطاقة فيه كما ينبغي.
أمّا الرابط الرديء، فهو مليء بالثقوب — فلا يُستفاد من جهدك إلا القليل.
على سبيل المثال: جرّبتُ ربط قطعة طباشير بزجاجة ماء.
لم يكن بينهما أي شبه يذكر بينهما، لذا رغم أن الزجاجة لا تزن أكثر من رطلَين، شعرتُ وكأن الطباشير يزن ستين رطلًا!
أما أفضل رابط وجدته، فكان غصن شجرة قمت بكسره إلى نصفين.
وبعد أن فهمتُ هذا الجانب من السمباثي، علّمني "بن" جوانب أخرى — عشرات وعشرات من روابط السمباثي، ومئات الحِيَل الصغيرة لتوجيه الطاقة. كل واحدة منها كانت بمثابة كلمة جديدة في مفردات لغةٍ شاسعة كنتُ بالكاد أبدأ في تعلّمها.
وفي كثير من الأحيان، كان الأمر مملًا... وصدقًا، لم أُخبرك حتى بنصف الحقيقة.
واصل "بِن" منحي دروسًا متناثرة في مجالات أخرى: كالتاريخ، والحساب، والكيمياء.
لكنني كنت أتشبّث بكل ما يمكنه أن يعلّمني إيّاه عن السمباثي.
كان يُعطيني أسراره بتقتير و اعتدال، لا يُعلّمني خطوةً جديدة حتى أتقنَ السابقة، لكن يبدو أن لدي موهبة طبيعية في ذلك — تتجاوز حتى ميلي الفطريّ لامتصاص المعرفة. لذا، نادرًا ما اضطررتُ للانتظار طويلًا.
لا أريد أن أوحي بأن الطريق كانت دائمًا ممهّدة.
فالفضول نفسه الذي جعلني تلميذًا نَهِمًا و شغوفا، هو ما أوقعني في المشاكل باستمرار.
في إحدى الأمسيات، بينما كنتُ أشعل نار مَوقد الطهي لأمي وأبي، سمعتني أمّي وأنا أتمتم بقصيدة سمعتها في اليوم السابق. لم أكن أعلم أنها خلفي، فسمعتني أطرق قطعة حطب بأخرى وأنا أتمتم شِعرًا دون وعي:
"سبعة أشياء لدى السيدة لاكْلِيس
تُخفيها تحت فستانها الأسود
خاتمٌ لا يُلبَس
وكلمةٌ جارحة لا تُشتَم
بجوار شمعة زوجها
بابٌ بلا مقبض
وفي صندوقٍ بلا غطاء ولا قفل
لاكليس تُخزّن أحجار زوجها
ثمّة سرّ تخفيه
تحلم دون أن تنام
وفي طريقٍ لا يُسافَر فيه
تحبّ لاكْلِيس حياكة الأحاجي" (•_•)
كنت قد سمعتُ طفلة صغيرة تنشدها وهي تلعب القفز بالحبل. لم أسمعها إلا مرّتين، لكنها علقت في ذهني و كانت لا تنسى — كما تفعل أغلب أناشيد الأطفال. لكن والدتي سمعتني، واقتربت لتقف بجوار النار. قالت: "ما الذي كنتَ تنشده، عزيزي؟" لم يكن صوتها غاضبًا، لكنني كنتُ أشعر أنها غير مرتاحة. قلت متملّصًا: "مجرد شيء سمعته في 'فالوز' (Fallows)." كان الانطلاق مع أطفال المدن من الأمور شبه المحظورة. كان أبي يقول للأعضاء الجدد في فرقتنا: "الريبة سريعًا ما تتحوّل إلى كراهية، فابقوا معًا حين تكونون في البلدة، وكونوا مهذّبين." وضعت بعض أعواد الحطب الثقيلة في النار وراقبتُ ألسنة اللهب تلعقها. ظلّت أمي صامتة للحظة، وقد بدأتُ آمل أن تسكت وتدع الأمر يمر، حين قالت: "ليست أغنية لطيفة لترددها. هل فكّرتَ في معناها؟" لم أكن قد فعلت، في الواقع. بدت لي مجرد أغنية أطفال عبثية و مجرد هراء. لكن حين أعدتُ تلاوتها في ذهني، أدركتُ الإيحاءات الجنسية الواضحة فيها. قلت: "نعم... لم أكن قد فكّرتُ بها من قبل." لانت ملامحها قليلًا، ومدّت يدها لتُملّس شعري: "فكّر دائمًا فيما تنشده، عزيزي." بدا أنني خرجتُ من المأزق، لكنني لم أستطع كبت السؤال: "وما الفرق بينها وبين بعض مقاطع في 'لكل انتظارِهِ' (For All His Waiting)؟ مثلما سأل 'فاين' السيدة 'پيريال' (Perial) عن قُبّعتها: 'سمعتُ عنها من رجالٍ كُثُر، فوددتُ أن أراها بنفسي وأجرّب ملاءمتها' ؟ من الواضح تمامًا عمّ يتحدث، أليس كذلك؟" (●~●)*أعتقد فهتموها، لن اشرحها صفوا نياتكم * راقبتُ شفتيها تشدّان، لا عن غضب، لكن بلا رضا. ثم بدا أن شيئًا ما تبدّل في وجهها. قالت: "وأنت، أخبرني ما الفرق." كرهتُ هذا النوع من الأسئلة المُلغَّمة و المضللة. كان الفرق واضح: إحداها قد تُوقِعني في المتاعب، والأخرى لا. انتظرتُ قليلًا لأُظهر أنني فكّرتُ بالأمر، ثم هززت رأسي بالنفي. ركعت والدتي برفق أمام النار، تُدفِّئ يديها. قالت: "الفرق هو... هلا ذهبتَ وأحضرتَ لي الحامل الثلاثي؟" ودفعتني بخفّة، فأسرعتُ لجلبه من مؤخرة عربتنا، وهي تتابع كلامها: "الفرق هو بين أن تقول شيئًا لشخص، وأن تقول شيئًا عن شخص. الأول قد يكون فظّا و وقحًا، أما الثاني، فهو نميمة دومًا." * *تحاول قول أن الحديث الجنسي في مسرحية كـ For All His Waiting يكون جزءًا من حوار أدبي ضمن سياق درامي و خيالي، بينما أنشودة Lady Lackless هي فعلا عبارة عن القيل والقال أو النميمة الساخرة التي تُسيء إلى شخص حقيقي حيّ.* أحضرتُ الحامل وساعدتها على تثبيته فوق النار. قالت وهي تضع القِدر: "ثم إن السيدة 'بيريال' شخصية خيالية. أما السيدة لاكْلِيس (Lackless) فهي شخص حقيقي، بمشاعر يمكن جرحها." رفعت أمي عينيها نحوي. "لم أكن أعلم" اعترضتُ بجرم و شعور بالذنب. لابد أنني بدوتُ في موقف مأسويو مثيرا للشفقة بما يكفي لأن تجمعني في عناق وتُقبلني، وقالت: "لا شيء يدعو للبكاء، يا عزيزي. فقط تذكّر دائمًا أن تفكّر فيما تفعله." مرّت يدها فوق رأسي وابتسمت ابتسامة كإشراقة للشمس. "أعتقد أنه يمكنك تعويض السيدة 'لاكْلِيس' وأنا إذا وجدتَ بعضا من نبات القراص الحلو للطعام الليلة." كان أي عذر للهروب من اللوم واللعب لبعض الوقت في غابة الأشجار بجانب الطريق كافيًا بالنسبة لي. كنتُ قد انطلقتُ تقريبًا قبل أن تنتهي كلماتها. يجب أن أوضح أيضًا أن الكثير من الوقت الذي قضيته مع "بن" كان وقت فراغي. كنت لا أزال مسؤولًا عن واجباتي المعتادة في الفرقة. كنتُ أؤدي دور الصبي الشاب و الوصيف عند الحاجة. ساعدت في رسم الديكورات وخياطة الأزياء. فركت الخيول في الليل وصنعتُ صوت الرعد من ورقة الصفيح خلف الكواليس عندما كنا بحاجة إلى الرعد على المسرح. لكنني لم أندب ضياع وقت فراغي. طاقة الطفل اللامتناهية وجشعي المعرفي الشديد جعلا السنة التالية واحدة من أسعد الفترات التي أتذكرها.
كنت قد سمعتُ طفلة صغيرة تنشدها وهي تلعب القفز بالحبل.
لم أسمعها إلا مرّتين، لكنها علقت في ذهني و كانت لا تنسى — كما تفعل أغلب أناشيد الأطفال.
لكن والدتي سمعتني، واقتربت لتقف بجوار النار. قالت: "ما الذي كنتَ تنشده، عزيزي؟"
لم يكن صوتها غاضبًا، لكنني كنتُ أشعر أنها غير مرتاحة.
قلت متملّصًا: "مجرد شيء سمعته في 'فالوز' (Fallows)."
كان الانطلاق مع أطفال المدن من الأمور شبه المحظورة.
كان أبي يقول للأعضاء الجدد في فرقتنا: "الريبة سريعًا ما تتحوّل إلى كراهية، فابقوا معًا حين تكونون في البلدة، وكونوا مهذّبين."
وضعت بعض أعواد الحطب الثقيلة في النار وراقبتُ ألسنة اللهب تلعقها.
ظلّت أمي صامتة للحظة، وقد بدأتُ آمل أن تسكت وتدع الأمر يمر، حين قالت: "ليست أغنية لطيفة لترددها. هل فكّرتَ في معناها؟"
لم أكن قد فعلت، في الواقع. بدت لي مجرد أغنية أطفال عبثية و مجرد هراء.
لكن حين أعدتُ تلاوتها في ذهني، أدركتُ الإيحاءات الجنسية الواضحة فيها.
قلت: "نعم... لم أكن قد فكّرتُ بها من قبل."
لانت ملامحها قليلًا، ومدّت يدها لتُملّس شعري: "فكّر دائمًا فيما تنشده، عزيزي."
بدا أنني خرجتُ من المأزق، لكنني لم أستطع كبت السؤال: "وما الفرق بينها وبين بعض مقاطع في 'لكل انتظارِهِ' (For All His Waiting)؟
مثلما سأل 'فاين' السيدة 'پيريال' (Perial) عن قُبّعتها: 'سمعتُ عنها من رجالٍ كُثُر، فوددتُ أن أراها بنفسي وأجرّب ملاءمتها' ؟ من الواضح تمامًا عمّ يتحدث، أليس كذلك؟" (●~●)*أعتقد فهتموها، لن اشرحها صفوا نياتكم *
راقبتُ شفتيها تشدّان، لا عن غضب، لكن بلا رضا.
ثم بدا أن شيئًا ما تبدّل في وجهها. قالت: "وأنت، أخبرني ما الفرق."
كرهتُ هذا النوع من الأسئلة المُلغَّمة و المضللة. كان الفرق واضح: إحداها قد تُوقِعني في المتاعب، والأخرى لا.
انتظرتُ قليلًا لأُظهر أنني فكّرتُ بالأمر، ثم هززت رأسي بالنفي.
ركعت والدتي برفق أمام النار، تُدفِّئ يديها. قالت: "الفرق هو... هلا ذهبتَ وأحضرتَ لي الحامل الثلاثي؟" ودفعتني بخفّة، فأسرعتُ لجلبه من مؤخرة عربتنا، وهي تتابع كلامها: "الفرق هو بين أن تقول شيئًا لشخص، وأن تقول شيئًا عن شخص. الأول قد يكون فظّا و وقحًا، أما الثاني، فهو نميمة دومًا." *
*تحاول قول أن الحديث الجنسي في مسرحية كـ For All His Waiting يكون جزءًا من حوار أدبي ضمن سياق درامي و خيالي، بينما أنشودة Lady Lackless هي فعلا عبارة عن القيل والقال أو النميمة الساخرة التي تُسيء إلى شخص حقيقي حيّ.*
أحضرتُ الحامل وساعدتها على تثبيته فوق النار. قالت وهي تضع القِدر: "ثم إن السيدة 'بيريال' شخصية خيالية. أما السيدة لاكْلِيس (Lackless) فهي شخص حقيقي، بمشاعر يمكن جرحها."
رفعت أمي عينيها نحوي. "لم أكن أعلم" اعترضتُ بجرم و شعور بالذنب.
لابد أنني بدوتُ في موقف مأسويو مثيرا للشفقة بما يكفي لأن تجمعني في عناق وتُقبلني، وقالت: "لا شيء يدعو للبكاء، يا عزيزي. فقط تذكّر دائمًا أن تفكّر فيما تفعله."
مرّت يدها فوق رأسي وابتسمت ابتسامة كإشراقة للشمس.
"أعتقد أنه يمكنك تعويض السيدة 'لاكْلِيس' وأنا إذا وجدتَ بعضا من نبات القراص الحلو للطعام الليلة."
كان أي عذر للهروب من اللوم واللعب لبعض الوقت في غابة الأشجار بجانب الطريق كافيًا بالنسبة لي. كنتُ قد انطلقتُ تقريبًا قبل أن تنتهي كلماتها.
يجب أن أوضح أيضًا أن الكثير من الوقت الذي قضيته مع "بن" كان وقت فراغي.
كنت لا أزال مسؤولًا عن واجباتي المعتادة في الفرقة. كنتُ أؤدي دور الصبي الشاب و الوصيف عند الحاجة. ساعدت في رسم الديكورات وخياطة الأزياء.
فركت الخيول في الليل وصنعتُ صوت الرعد من ورقة الصفيح خلف الكواليس عندما كنا بحاجة إلى الرعد على المسرح.
لكنني لم أندب ضياع وقت فراغي.
طاقة الطفل اللامتناهية وجشعي المعرفي الشديد جعلا السنة التالية واحدة من أسعد الفترات التي أتذكرها.
"سبعة أشياء لدى السيدة لاكْلِيس تُخفيها تحت فستانها الأسود خاتمٌ لا يُلبَس وكلمةٌ جارحة لا تُشتَم بجوار شمعة زوجها بابٌ بلا مقبض وفي صندوقٍ بلا غطاء ولا قفل لاكليس تُخزّن أحجار زوجها ثمّة سرّ تخفيه تحلم دون أن تنام وفي طريقٍ لا يُسافَر فيه تحبّ لاكْلِيس حياكة الأحاجي" (•_•)
---
ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن
أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات