You dont have javascript enabled! Please enable it!
Switch Mode

أعزائنا القرّاء، يسرّنا إعلامكم بأن ملوك الروايات يوفر موقعًا مدفوعًا وخاليًا تمامًا من الإعلانات المزعجة، لتستمتعوا بتجربة قراءة مريحة وسلسة.

لزيارة الموقع، يُرجى النقر هنا.

هذا المحتوى ترفيهي فقط ولايمت لديننا بأي صلة. لا تجعلوا القراءة تلهيكم عن صلواتكم و واجباتكم.

سجلات قاتل الملك 3

الخشب و الكلمة

الخشب و الكلمة

الخشب و الكلمة


كان كوت يتصفح كتابًا بتكاسل، محاولًا تجاهل صمت الحانة الخالي، حتى فُتِحَ الباب ودخل غراهام متراجعًا إلى الغرفة.

"لقد انتهيت للتو." قال غراهام وهو يتنقل بين الطاولات بحذر مبالغ فيه. "كنت سأحضره الليلة الماضية، لكنني فكرت في 'طبقة أخيرة من الزيت، افركه، واتركه ليجف.' لا أستطيع أن أقول إنني نادم على ما فعلت. يا سيدي وسيدتي، إنه جميل كأي من الأشياء التي صَنعتْها هاتان الأيدي."

تشكّل خط صغير بين حاجبي صاحب الحانة. ثم، عند رؤيته للحزمة المسطحة في ذراعي الرجل، أضاء وجهه. "آه! لوحة التثبيت!" ابتسم كوت بتعب، "أعتذر غراهام. لقد مر وقت طويل. كنت قد نسيت تقريبًا."

ألقى غراهام نظرة غريبة عليه. "أربعة أشهر ليست طويلة بالنسبة للخشب القادم من آريان(Aryen)، خاصة مع الطرق السيئة كما هي."

"أربعة أشهر"، كرر كوت. رأى غراهام و هو يراقبه فأضاف مسرعًا: " ذلك يمكن أن يكون عمرًا إذا كنت تنتظر شيئًا ما." حاول أن يبتسم ليطمئنه، لكن ابتسامته بدت شاحبة.

في الواقع، بدا كوت نفسه مريضًا قليلًا. ليس مريضًا تمامًا، لكنه كان فارغًا. شاحبًا. مثل نبتة نُقلت إلى تربة غير مناسبة، ومع نقص شيء حيوي، ثم بدأت تذبل.

لاحظ غراهام الفرق. لم تكن إيماءات صاحب الحانة كما كانت من قبل. لم يكن صوته عميقًا كما كان. حتى عينيه لم تكن براقة كما كانت قبل شهر. بدا لونهما أقل إشراقًا. أصبحا أشبه بعشب النهر الباهت، مثل قاع زجاجة خضراء. أما شعره، فقد كان مشرقًا من قبل، مثل لون اللهب. أما الآن، فقد أصبح أحمر فقط. مجرد لون شعر أحمر عادي، حقًا.

سحب كوت القماش ونظر تحته. كان الخشب بلون الفحم الداكن مع حبوب (نقاط) سوداء، ثقيلًا كصفيحة حديد. كانت هناك ثلاث أوتاد داكنة فوق كلمة محفورة في الخشب.

"حماقة [1]"، قرأ غراهام. "اسم غريب لسيف."

أومأ كوت، وكان وجهه خاليًا من التعبير. "كم أدين لك؟" سأل بهدوء.

فكر غراهام للحظة. "بعد ما أعطيتني من أجل تغطية تكلفة الخشب..." كان في عينيه لمحة من المكر. "حوالي واحد وثلاثة."

دفع كوت تالنتين : "احتفظ بالباقي. إنه خشب صعب العمل معه."

"وهذا صحيح"، قال غراهام برضا، "إنه كالحجر تحت المنشار. جرب الإزميل، كأنك تتعامل مع الحديد. ثم، بعد كل الضجيج، لم أستطع أن أُحرقه أو أشوهه."

"لاحظت ذلك" قال كوت، مع لمحة من الفضول، وهو يمرر إصبعه على الحرف الداكن الذي صنعته الكلمات في الخشب. "كيف تمكنت من فعل ذلك؟"

"حسنًا"، قال غراهام متفاخرًا، "بعد أن ضاع نصف اليوم في محاولاتي، أخذته إلى ورشة الحداد. أنا والصبي تمكنا من تحميصه باستخدام حديد ساخن. استغرقنا أكثر من ساعتين حتى أصبح أسود. و لم يطلق نفسا من الدخان، لكن كانت رائحته مثل الجلد القديم والبرسيم. أغرب شيء. ما نوع الخشب الذي لا يحترق؟"

انتظر غراهام لحظة، لكن كوت لم يظهر أي إشارة على أنه قد سمع.

"أين ترغب في تعليقه إذًا؟"

استفاق كوت بما يكفي لينظر حول الغرفة. "يمكنك ترك ذلك لي. لم أقرر بعد أين أضعه."

ترك غراهام مجموعة من المسامير الحديدية وتمنى لصاحب الحانة يومًا سعيدًا. بقي كوت عند البار، يمرر يديه بلا مبالاة على الخشب والكلمة. بعد فترة قصيرة، خرج باست من المطبخ ونظر فوق كتف معلمه.

مرت لحظة طويلة من الصمت كما لو كانت تكريمًا للموتى. في النهاية، تحدث باست: "هل لي أن أسأل سؤالًا، ريشي؟"

قال كوت: "مجددا، باست"، ثم ابتسم برفق: "سؤال مُزعج؟"

"تلك هي الأسئلة الوحيدة التي تستحق العناء عادة." أجابه باست.

ظلا يحدقان في الشيء على البار لحظة صمت أخرى، كما لو كانا يحاولان حفظه في الذاكرة، "حماقة".

تردد باست للحظة، ففتح فمه، ثم أغلقه بنظرة محبطة، ثم كرر العملية.

"قل ما لديك"، قال كوت أخيرًا.

"في ماذا كنت تفكر؟" قال باست مع مزيج غريب من الحيرة والقلق.

تأخر كوت طويلًا قبل أن يجيب. "أنا أميل إلى التفكير كثيرًا، باست. أكبر نجاحاتي جاءت من قرارات اتخذتها عندما توقفت عن التفكير ببساطة وفعلت ما شعرت أنه صحيح. حتى وإن لم يكن هناك تفسير وجيه و جيد لما فعلته." ابتسم بحنين، "حتى وإن كانت هناك أسباب قوية للغاية تجنبني و تمنعني من فعل ما فعلت."

مرر باست يده على جانب وجهه. "إذن أنت تحاول تجنب الشك في نفسك؟"

تردد كوت، ثم أضاف بنبرة اعتراف: "يمكنك قول ذلك"

"أستطيع قول ذلك بشكل صريح، ريشي"، قال باست بتفاخر و غطرسة. "أما أنت، فستعقد الأمور بلا داعٍ."

أومأ كوت كتفيه وأعاد نظره إلى لوحة التثبيت. "لا شيء أمامنا سوى إيجاد مكان لها، على ما أظن."

"هنا؟" كان تعبير باست مرعوبًا.

ابتسم كوت بابتسامة شريرة، وعادت بعض من حيويته إلى وجهه. "بالطبع"، قال وهو يبدو وكأنه يستمتع بردة فعل باست. نظر بتفكير إلى الجدران وضغط شفتيه: "أين وضعتها أنت، على أي حال؟"

"في غرفتي"، اعترف باست، "تحت سريري."

أومأ كوت بشرود، وما زال يتفحص الجدران بنظره. "اذهب وأحضرها إذًا." وأشار بإيماءة صغيرة من يده، فانطلق باست مسرعًا، يبدو عليه الامتعاض.

كان البار مزينًا بزجاجات براقة، وكان كوت واقفًا على المنضدة التي أصبحت الآن خالية، بين برميلين ضخمين من خشب السنديان، حين عاد باست إلى الغرفة، والغمد الأسود يتأرجح بخفة من إحدى يديه.

توقف كوت عن وضع لوحة التثبيت فوق أحد البراميل، وصرخ مستنكرًا: "بحذر يا باست! إنك تحمل سيدة هناك، فأنت لا تتمايل و تهز بفتاة ريفية في رقصة!"

تجمد باست في مكانه وجمع الغمد بيديه و أمسكه بكلتيهما كاحترام، ثم مشى ما تبقّى من المسافة نحو البار.

دق كوت مسمارين في الحائط، ولوى بعض السلك المعدني، وعلّق لوحة التثبيت بثبات على الجدار. "ناولني إياها، أرجوك." قال بنبرة خافتة فيها شيء غريب.

وبكلتا يديه، رفع باست السيف إليه، يبدو للحظة كأنه تابع يقدّم السيف لفارس مكلّل بالدروع اللامعة.

لكن لم يكن هناك فارس. لم يكن سوى صاحب نُزل. مجرد رجل يرتدي مريولًا (مئزرا)، يُدعى كوت. أخذه كوت من باست ووقف منتصبًا على المنضدة خلف البار.

أخرج السيف دون أي استعراض. كان يلمع بلون رمادي-أبيض باهت تحت ضوء الخريف المتسلل إلى الغرفة. بدا كسيف جديد. لا شروخ عليه، ولا صدأ. لا خدوش لامعة تركض على جانبه الرمادي الكئيب.

لكن رغم أنه لم يكن تالفًا أو متضررا، إلا أنه كان قديمًا. ورغم أنه كان بوضوح سيفا، لم يكن ذا شكل مألوف. لأن لا أحد في هذه البلدة كان ليجده مألوفًا.

بدا كأن خيميائيًا قام بصهر و تقطير اثني عشر سيفًا، وعندما برد البوتقة، وُجد هذا في القاع: سيفٌ في صورته النقيّة و الخالصة.

كان نحيفًا، أنيقًا. مميتًا كحجر حاد تم صقله تحت ماء نهر جارٍ. أمسكه للحظة، و لم ترتجف يده.

ثم وضع السيف على لوحة التثبيت. كان المعدن الرمادي-الأبيض يلمع فوق خشب الرواه الداكن .

كان المقبض مرئيا، لكنه كان داكنًا بدرجة تجعله بالكاد يُفرّق عن الخشب. أما الكلمة المنقوشة تحته، سوداء على خلفية حالكة، فقد بدت كأنها توبيخ: 'حماقة'.

هبط كوت من على المنضدة، ووقف هو وباست جنبًا إلى جنب، يحدّقان بصمت نحو الأعلى.

قطع باست الصمت أخيرًا، وقال كما لو أنّه يأسف لصدق عبارته: "إنه ملفت للنظر، حقًّا، ولكن..."

توقّف عن الكلام، كأنّ الكلمات المناسبة استعصت عليه، ثم ارتجف.

ربت كوت على ظهره بتفاؤل غريب وقال: "لا داعي للقلق من أجلي، لا تنزعج بسببي."، كان يبدو أكثر حيوية الآن، كأنّ الحركة منحت جسده طاقة جديدة كما لو كان منتعشا. ثم قال فجأة، وقد ملأه اقتناع غير متوقع: "أعجبني"، وعلّق الغمد الأسود على أحد أوتاد لوحة التثبيت الخشبية.

ثم انشغلا بما يجب إنجازه: زجاجات تُلمَّع وتُعاد إلى أماكنها، غداء يُحضَّر، فوضى الغداء تُنظَّف...

سادت أجواء مرِحة لبضع دقائق، ضاجّة و مليئة بطمأنينة الانشغال. تحدث الاثنان عن أمور صغيرة أثناء العمل، ورغم أنهما تحرّكا كثيرًا في أنحاء المكان، بدا واضحًا أنهما يتعمّدان إطالة العمل، كما لو أنهما يخشَيان اللحظة التي ينتهي فيها كل شيء ويعود فيها الصمت ليسود الحجرة من جديد.

ثم حدث شيء غريب. فُتح الباب، وانسكب الضجيج إلى الحانة كمدٍّ لطيف. دخل الناس بخطًى نشطة، يتحدّثون ويُسقِطون أمتعتهم. اختاروا الطاولات وألقوا معاطفهم على ظهور الكراسي.

رجل يرتدي قميصًا من حلقات معدنية ثقيلة فك حزام سيفه وأسنده إلى الحائط. اثنان أو ثلاثة كانوا يضعون خناجر في أحزمتهم، وأربعة أو خمسة نادوا بطلب الشراب.

راقب كوت وباست المشهد للحظة، ثم شرعا بالتحرّك بانسيابية.

ابتسم كوت وبدأ في صبّ الشراب، بينما اندفع باست إلى الخارج ليرى إن كانت هناك خيول بحاجة إلى إيواء.

وفي غضون عشر دقائق، صار النزل مكانًا مختلفًا. رنّت النقود فوق المنضدة، و وُضِع الجبن والفواكه على صحون، وعلّق قدر نحاسي كبير فوق النار في المطبخ ليغلي بهدوء.

حرّك الرجال الطاولات والكراسي ليُناسبوا مجموعة قوامها قرابة اثني عشر شخصًا.

وقد تعرّف كوت إليهم بينما دخلوا: رجلان وامرأتان من سائقي العربات، ملامحهم خَشِنة من سنوات سفرهم بالعراء، وابتساماتهم عريضة لأنهم سيقضون ليلة بعيدًا عن الرياح.

ثلاثة حرّاس، بعيون صلبة ورائحة الحديد تفوح منهم. سمكريّ ببطن بارزة وابتسامة دائمة تظهر ما تبقّى من أسنانه.

وشابّان، أحدهما أشقر رمليّ والآخر أسمر، حسنَي المظهر والحديث، مسافران ذكيان التحقا بهذه الجماعة الكبيرة طلبًا للحماية على الطريق.

استمرّت فترة الاستقرار ساعةً أو اثنتين. تفاوضوا على أسعار الغرف، واندلعت جدالات ودّية حول من يتشارك الغرف بينهم. جُلِبت الحاجيات الصغيرة من العربات أو أكياس السرج خاصتهم. طُلِبت الحمّامات وسُخِّن الماء. قُدِّم التبن و الماء للخيول، وقام كوت بملء مصابيح الزيت حتى آخرها.

أسرع السمكري[2] العجوز إلى الخارج مستفيدًا من ضوء النهار المتبقي، يقود عربته ذات العجلتين وسط شوارع البلدة. تزاحم الأطفال حوله، يطلبون الحلوى والحكايات وقطع النقود المعدنية الصغيرة.

لكن حين تبيّن أنه لن يُوزَّع شيئا، فَقَدَ معظمهم اهتمامهم. كوَّنوا دائرة، ووقف صبي في وسطها، ثم بدأوا التصفيق على إيقاع أنشودة طفولية و شعبية عتيقة، كانت قديمة حتى في زمن أجدادهم:

"حين يصبح لهب الموقد أزرقا،

فماذا تفعل؟ ماذا تفعل؟

اركض للخارج، واهرب بعيدًا و اختبئ ." [3]

كان الصبي في الوسط يضحك محاولًا الهرب من الدائرة، بينما الآخرون يدفعونه للعودة.

رنّ صوت الرجل العجوز كجرس: "سمسار! مُصلِح القدور و الأواني! شاحذ السكاكين! كاشف الماء بعصا الصفصاف!

قطع الفلّين! أعشاب الأم! أوشحة حريرية من شوارع المدينة! ورق للكتابة! حلويات!" *بخيل و هكر خدمات!*

لفت هذا أنظار الأطفال. عادوا يتجمهرون حوله، يصنعون موكبًا صغيرًا وهو يشقّ الطريق مغنيًا أنشودة:

"أحزمة من الجلد. فلفل أسود.

دانتيل فاخر وريش زاهٍ.

السمسار في البلدة الليلة، راحل في الغد.

يعمل حتى ضوء المساء.

تعالي أيتها الزوجة، تعالي أيتها الابنة،

لديّ قماش ناعم وماء الورد."

بعد دقائق قليلة، عاد و توقّف أمام نزل وايستون، نصب حجر الشحذ، وبدأ في سنّ السكاكين.

بينما بدأ البالغون يتجمهرون حوله، عاد الأطفال إلى لعبتهم. فتاة في وسط الدائرة غطّت عينيها بيد واحدة، تحاول أن تُمسك بمن يفرّون منها، بينما ظلّوا يصفقون وينشدون:

"حين تصبح عيناه سوداء كغراب،

إلى أين الذهاب؟ إلى أين الذهاب؟

قريبًا وبعيدًا. ها هم هناك." [4]

كان السمسار يتعامل مع الجميع واحدًا تلو الآخر، وأحيانًا مع اثنين أو ثلاثة في آن واحد.

يستبدل السكاكين الحادة بالبليدة مقابل قطعة نقدية صغيرة، ويبيع مقصّات وإبرًا، قدورًا نحاسية، وقوارير صغيرة تخبّئها الزوجات بسرعة بعد شرائها.

يتاجر بأزرار، وحقائب صغيرة من القرفة والملح، ليمون من تينوِي (Tinuë)، شوكولاته من تاربين (Tarbean)، وقرون مصقولة من آيروِه (Aerueh)…

وكل هذا بينما يواصل الأطفال الغناء:

"هل ترى رجلًا بلا وجه؟

يتنقل كالأشباح من مكان إلى مكان.

ما خطّتهم؟ ما خطّتهم؟

تشاندريان. تشاندريان."[5]

خمّن كوت أن هؤلاء المسافرين قد قضوا معًا شهرًا تقريبًا، مدة كافية للشعور بالألفة، لكن لا تزال قصيرة لتبدأ الخلافات حول التفاصيل الصغيرة.

كانت رائحتهم تفوح بالغبار ورائحة الخيول، استنشقها كوت كأنّها عطر، وأفضل ما في الأمر كان الضجيج. صرير الجلد، ضحكات الرجال، صوت النار تتشقق وتُطقطق، همسات النساء وتغزّلهن، حتى أنّ أحدهم أسقط كرسيًا ليصدر ضجيجا.

للمرّة الأولى منذ وقت طويل، لم يكن هناك صمت في نزل وايستون. أو إن وُجِد، فقد كان خافتًا حدّ التلاشي، أو ماهرًا في الاختباء.

وكان كوت في وسط كل ذلك، دائم الحركة، كما لو كان يشتغل مثل آلة ضخمة معقدة. يُقدّم الشراب فور طلبه، تارة يتحدث ويصغي بمقدار مدروس، يضحك على نكات الزبناء، يصافح، يبتسم، ويلتقط القطع النقدية على المنضدة وكأنّه بحاجة فعلية لها.

ثم، عندما حان وقت الأغاني، وبعد أن غنّى الجميع أغانيهم المفضلة وما زالوا يتوقون للمزيد، قادهم كوت من وراء البار، وهو يصفق للحفاظ على الإيقاع. ومع تألق النار في شعره، غنّى بدوره أغنية "تينكر تانر" (Tinker Tanner)، أكثر من الأبيات التي سمعها الجميع من قبل، ولم يعترض أحد أو يكترث لذلك.

مرت الساعات، وصار للغرفة المشتركة جو دافئ ومرح. كان كوت جاثيًا قرب المدفأة، يُزيد النار تأججًا و يغذّيها، حتى سمع صوتًا خلفه.

"كڤوث (Kvothe)؟"

استدار صاحب النزل مبتسمًا ابتسامة مليئة بالارتباك الطفيف: "سيدي؟"

كان أحد المسافرين الأنيقين، وكان يترنح قليلًا: "أنت كڤوث"

"كوت، سيدي" أجاب كوت بنبرة متساهلة كما يفعل الأمهات مع أطفالهن، أو كما يفعل صاحب النُزُل مع السكّارى.

"كڤوث الدموي." استمر الرجل قائلاً بإصرار مدمن على المعرفة، كما لو كان مفعولًا بحالة سكر. "كنت أظنك مألوفًا، لكن لم أتمكن من تذكّر الأُلفة." ابتسم بفخر وضغط إصبعه على أنفه. "ثم سمعتك تغني، وعرفت أنه كان أنت. سمعتك في إمري (Imre) مرة. بكيتُ بعد ذلك. ما سمعته لم يكن مثل أي شيء سمعته من قبل أو بعد. لقد حطّم قلبي."

تداخلت جمل الشاب بشكل غير مرتب وهو يواصل حديثه، لكن وجهه بقي جادًا. "كنت أعرف أنه ما كان ليكون أنت، لكن ظننت أنه أنت. حتى رغم ذلك. لكن من غيرك لديه شعرك؟" هزّ رأسه، محاولًا دون جدوى أن يفرغ ذهنه من سكرته. "رأيت المكان في إمري حيث قتلتَه. عند النافورة. الحجارة المرصوفة كلها... متكسّرة." عبس وركّز في الكلمة، "محطّمة. يقولون إنّ أحدًا لا يستطيع إصلاحها."

توقّف الرجل ذا الشعر الأشقر للحظة أخرى. ثم نظر إلى ردّ فعل صاحب النزل بتفاجؤ.

كان الرجل ذو الشعر الأحمر مبتسمًا. "هل تقول إنني أبدو مثل كڤوث؟ كڤوث الدموي؟ لطالما اعتقدت ذلك بنفسي. لدي صورة منقوشةله في الخلف. مساعدي يسخر مني من أجل ذلك. هل تستطيع أن تخبره أيضا بما قلته لي؟"

رمى كوت قطعة خشب أخيرة على النار ونهض. لكن عندما خطا بعيدًا عن المدفأة، التوى أحد ساقيه وسقط ثقيلًا على الأرض، ليطيح بكُرسي معه.

تجمع عدد من المسافرين بسرعة، لكن صاحب الحانة كان قد نهض بالفعل، مشيرًا للناس بالرجوع إلى مقاعدهم. "لا، لا. أنا بخير. آسف لإخافة أحد." على الرغم من ابتسامته، كان واضحًا أنه أصيب. كان وجهه مشدودًا من الألم، وكان يتكئ بثقل على الكرسي بحثًا عن الدعم.

قال وهو يبتسم بحسرة: "أخذت سهماً في ركبتي في طريقي عبر 'إلد' (Eld) قبل ثلاث صُيوف. إنها ترجع و تتفجر بين الحين والآخر." ثم عبس وقال بحسرة، "لهذا تركت الحياة الجيدة على الطريق."، مد يده ليلمس ساقه المنحنية بشكل غريب بلطف.

أحد المرتزقة تحدث قائلاً: "الأفضل أن تضع ضمادة على ذلك، و إلا فسَيتورّم بشكل فظيع."

لمس كوت ساقه مجددًا وأومأ برأسه: "أعتقد أنك حكيم، سيدي"، ثم توجه إلى الرجل ذو الشعر الرملي الذي كان يقف متمايلًا بالقرب من المدفأة، "هل يمكنك مساعدتي في أمر، يا بني؟"

أومأ الرجل السكير بغباء. "فقط أغلق المدخنة" أشار كوت إلى المدفأة. "باست، هلا ساعدتني في الصعود إلى الأعلى؟"

هرع باست واقترب من كوت، ساحبًا ذراعه حول كتفه. اتكأ عليه كوت مع كل خطوة أثناء صعودهم عبر الباب والصعود على السلالم.

"سهم في الساق ؟" سأل باست بصوت خافت. "هل حقًا تشعر بهذا الإحراج لهذه الدرجة من السقوط قليلاً هكذا؟"

"الشّكر على أنك ساذج مثلهم" قال كوت بحدة بمجرد أن اختفيا عن الأنظار. ثم بدأ يسب تحت أنفاسه بينما كان يواصل صعود السلالم، و كانت ركبته في الواقع غير مصابة.

اتسعت عينا باست، ثم ضاقت. توقف كوت في أعلى السلالم، فرك عينيه وقال: "أحدهم يعرف من أنا." ثم عبس وقال: "بالأحرى، يشتبه"

"أيهم؟" سأل باست مع مزيج من القلق والغضب.

"ذاك الذي يرتدي القميص الأخضر والشعر الرملي. الأقرب إلي بجانب المدفأة. أعطه شيئًا ليجعله ينام. لقد شرب بالفعل. لن يلاحظ أحد إذا أغشي عليه و نام."

فكر باست لوهلة. "نايمن (Nighmane)؟"

"مهينكا (Mhenka)." قال كوت.

رفع باست حاجبه، لكنه أومأ. استقام كوت وقال: "استمع جيدًا، باست." غمز له باست مرة وأومأ.

تحدث كوت بوضوح وحسم: "كنت مرافقًا مرخصًا من مدينة رالين (Ralien). أصبت أثناء دفاعي الناجح عن قافلة. سهم في ركبتي اليمنى. قبل ثلاث سنوات. في الصيف، تاجرٌ سيلديشيٌّ (Cealdish) شكرني وأعطاني المال لبدء حانة. اسمه ديولان (Deolan). كنا مسافرين من بورڤيس (Purvis). اذكرها عابرًا عندما تنزل، هل تذكرتها؟"

"أسمعك ثلاث مرات، يا ريشي." رد باست رسميًا. ثم قال كوت: "اذهب" بعد نصف ساعة، عاد باست ومعه وعاء إلى غرفة سيده، مطمئنًا إياه أن الأمور تسير على ما يرام في الأسفل. أومأ كوت وأعطى تعليمات مختصرة بعدم إزعاجه بقية الليل.

أغلق باست الباب خلفه، وكان تعبيره يعكس القلق. وقف في أعلى السلالم لفترة طويلة، محاولًا التفكير في شيء يمكنه فعله.

من الصعب تحديد ما الذي أزعج باست كثيرًا. لم يبدو على كوت أنه تغير بشكل ملحوظ. إلا ربما أنه تحرك ببطء أكبر، وأي شرارة صغيرة كانت قد أضاءت عينيه في نشاط تلك الليلة، أصبحت أكثر خفوتًا الآن. في الحقيقة، بالكاد كانت مرئية. في الواقع، قد لا تكون موجودة على الإطلاق.

جلس كوت أمام النار وأكل طعامه بشكل شبه آلي، كما لو كان يجد فقط مكانًا داخل نفسه ليحفظ فيه الطعام. بعد آخر قضمة، جلس يحدق في الفراغ، غير متذكر لما أكله أو مذاقه حتى.

تصدعت النار و توهجت ، مما جعله يرمش وينظر حول الغرفة. نظر إلى يديه، واحدة ملتوية داخل الأخرى، مستريحة في حضنه. بعد لحظة، رفع يديه وبسطهما كما لو كانا يحاولان جمع الدفء بجانب النار. كانت يديه رشيقة، بأصابع طويلة ودقيقة. نظر إليهما بتركيز، كما لو كان يتوقع منهما أن تفعل شيئًا من تلقاء نفسها. ثم خفضهما مجددا إلى حضنه، بيد واحدة تحتضن الأخرى برفق، وعاد لمراقبة النار. بلا تعبير، بلا حركة، جلس حتى لم يبقَ سوى الرماد الرمادي والفحم المتوهج بنار خافتة.

بينما كان يخلع ملابسه استعدادًا للنوم، توهجت النار بما تبقى منها. تتبع الضوء الأحمر خطوطًا خفيفة و باهتة عبر جسده، عبر ظهره وذراعيه. كانت جميع الندوب ناعمة وفضية، تخترقه كالبرق، مثل خطوط ذكريات رقيقة. كشف لهيب النار عنها جميعًا لفترة قصيرة، الجروح القديمة والجديدة. كانت جميع الندوب ناعمة وفضية باستثناء واحدة.

ومع غروب لهيب النار بشكل نهائي ، لاقه النوم في سريره الفارغ.

غادر المسافرون في صباح اليوم التالي. اعتنى باست باحتياجاتهم، موضحًا أن ساق سيده كانت متورمة بشكل سيئ وأنه لم يشعر برغبة في صعود السلالم في وقت مبكر من اليوم. فهم الجميع هذا باستثناء ابن التاجر ذو الشعر الرملي، الذي كان غارقًا في النوم لدرجة أنه لم يفهم شيئًا. تبادل الحراس الابتسامات ودحرجوا عيونهم بينما ألقى السمكريّ خطبة مرتجلة و غير رسمية حول موضوع و فضيلة الاعتدال. كما أوصى باست بعدة علاجات غير مريحة للصداع الناتج عن الشرب.

بعد مغادرتهم، اهتم باست بالنُزل، وهو ليس عملاً شاقًا، حيث لم يكن هناك زبائن. قضى معظم وقته في محاولة إيجاد طرق لإشغال نفسه. بعد الظهر بقليل، نزل كوت من السلالم ليجده يحطم الجوز على البار بكتاب سميك ومغلف بالجلد.

"صباح الخير، ريشي."

"صباح الخير، باست"، رد عليه كوت و أضاف: "هل من أخبار؟"

"مرَّ الصبي أوريسون . أراد أن يعرف إذا كنا بحاجة إلى لحم خروف."

أومأ كوت، كما لو كان قد كان يتوقع الخبر. "كم طلبت؟". صنع باست وجهًا مكفهرًا و عابسا: "أكره لحم الخروف، ريشي. طعمه مثل القفازات المبللة."

رفع كوت كتفيه واتجه نحو الباب: "عندي بعض الأعمال لأقوم بها. هل يمكنك مراقبة الأمور هنا؟"

"أنا دائمًا أفعل."رد عليه باست.

خارج نُزل وايستون، كان الهواء لا يزال ساكنا وثقيلًا على الطريق الترابي الفارغ الذي يمتد عبر وسط المدينة. كانت السماء غيوما رمادية باهتة، وكأنها كانت ترغب في أن تمطر لكنها لم تتمكن من جمع الطاقة اللازمة لذلك.

عبر كوت الشارع إلى الواجهة المفتوحة لورشة الحدادة. كان الحداد قد قص شعره قصيرًا و لحيته كانت كثيفة للغاية. وبينما كان كوت يراقب، كان يدق بعناية مسمارين في طوق شفرة المنجل، مثبتًا إياها بإحكام على مقبض خشبي منحني. "مرحبًا يا كايْلِب (Caleb)"

أمال الحداد المنجل ووضعه بجانب الجدار. "ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك، سيد كوت؟"

"هل مرَّ الصبي أوريسون على ورشتك أيضًا؟"، أومأ كايلِب. "هل ما زالوا يفقدون الغنم؟" سأل كوت.

"في الواقع، بعض الغنم المفقودة ظهرت أخيرًا. و كانت بشكل فظيع، تقريبًا تم تمزيقها."

"ذئاب؟" سأل كوت.

هز الحداد كتفيه: "ليس الوقت المناسب لهذا، لكن ماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟ دب؟ أعتقد أنهم يبيعون ما لا يستطيعون العناية به بشكل صحيح، بما أنهم قلة في العمل وكل شيء."

"قليلون في العمل؟"

"اضطروا لطرد العامل الأجير الذي كان معهم بسبب الضرائب، وأخذ ابنهم الأكبر عملة الملك في الصيف الماضي. هو الآن يقاتل المتمردين في مينات (Menat)."

"مينيراس (Meneras)"، صحح كوت بلطف. "إذا رأيت ابنهم مرة أخرى، أخبره أنني على استعداد لشراء حوالي ثلاث أنصاف."

قال الحداد: "سأفعل ذلك"، وأعطى كوت نظرة مفهومة، "هل هناك شيء آخر؟"

تجنب كوت النظر إليه للحظة، بدا عليه الإحساس بالحرج فجأة، "في الواقع، كنت أتساءل إذا كان لديك بعض قضبان الحديد الصلب المتبقية عندك" قال ذلك دون أن يلتقي بعين الحداد. "لا يجب أن يكون شيئًا فاخرًا، فقط حديد عادي سيكفي."

ضحك كايلب: "لم أكن أعرف إذا كنت ستتوقف و تمر علي على الإطلاق. جاء كوب والبقية قبل أمس." توجه نحو طاولة العمل ورفع قطعة قماش، "لذا صنعت بعض القطع الزائدة فقط تحسبا لحالة طارئة."

أمسك كوت بعصا من الحديد بطول متر و نصف تقريبًا وأخذ يلوح بها بيد واحدة بلا مبالاة: "رجل ماهر و ذكي."

"أنا أعرف عملي جيدًا"، قال الحداد بفخر، "هل تحتاج شيئا آخر؟"

"في الواقع"، قال كوت وهو يريح قضيب الحديد على كتفه، "هناك شيء آخر. هل لديك مئزر احتياطي وزوج من القفازات المستخدمة في الحدادة؟"

"يمكن أن أملكها" قال كايلب بتردد، "لماذا؟"

"هناك بقعة من الأشواك خلف النزل." أشار كوت باتجاه وايستون، "أفكر في اقتلاعها حتى أتمكن من زرع حديقة العام المقبل. لكنني لا أحب فكرة فقدان نصف جلدي أثناء القيام بذلك."

هز الحداد رأسه وأشار لكوت ليتبعه إلى الجزء الخلفي من الورشة. "لدي مجموعتي القديمة"، قال وهو يبحث عن زوج من القفازات الثقيلة ومئزر جلدي قاسي؛ كان كلاهما محترقًا في بعض الأماكن ومغطاة بالزيت. "ليست جميلة، لكنها ستبقي أسوأ ما يمكن بعيدًا عنك، أظن."

"ما قيمتها لديك؟" سأل كوت وهو يمد يده إلى محفظته.

هز الحداد رأسه وقال: "قليل كثمنها سيكون كافيًا. لا قيمة لها لي أو للصبي."

أعطى كوت الحداد قطعة نقدية، فدسها الحداد في كيس خيش قديم، "هل أنت متأكد أنك تريد القيام بذلك الآن؟" سأله الحداد. "لم تمطر منذ فترة، ستكون الأرض أكثر ليونة بعد ذوبان الثلج في الربيع."

هز كوت كتفيه، "جدي كان دائمًا يقول لي إن الخريف هو الوقت المناسب لاقتلاع شيء لا تريده أن يعود ليزعجك" قلّد نبرة و صوت شيخ عجوز. "'الأشياء مليئة بالحياة في أشهر الربيع. في الصيف، تكون قوية جدًا ولن تتركك . الخريف...'" ثم نظر حوله إلى الأوراق المتساقطة من الأشجار، "'الخريف هو الوقت المناسب. في الخريف، كل شيء متعب وجاهز للموت.'"

في وقت لاحق من ذلك اليوم، أرسل كوت باست ليلحق بنومه. ثم تحرك بلا هدف حول النزل، يؤدي بعض الأعمال الصغيرة المتبقية من الليلة السابقة. لم يكن هناك زبائن. عندما جاء المساء، أشعل المصابيح وبدأ يتصفح كتابًا بلا اهتمام.

كان من المفترض أن يكون الخريف هو أكثر الأوقات ازدحامًا في العام، لكن المسافرين كانوا نادرين في الآونة الأخيرة. كان كوت يعرف يقينا كم سيكون الشتاء طويلا.

أغلق النزل مبكرًا، وهو شيء لم يفعله من قبل. لم يكلف نفسه عناء الكنْس. الأرض لم تكن بحاجة لذلك. لم يغسل الطاولات أو البار، فلم يتم استخدام أي منها. لمع زجاجة أو اثنتين، أغلق الباب، وذهب إلى سريره.

لم يكن هناك أحد ليلاحظ الفرق. لا أحد سوى باست، الذي راقب حالة سيده، وشعر بالقلق، وكان ينتظر ما سيحدث.

ملاحظات :


{ 1: اسم السيف Tinker :2 قديما كان يشمل عدة مهن يتقنها رجل واحد ، و يتجول بالقرى لتقديم خدماته ، حرفي، صانع، سمكري، عطار... 3: "When the hearthfire turns to blue, What to do? What to do? Run outside. Run and hide.” 4: “When his eyes are black as crow? Where to go? Where to go? Near and far. Here they are." 5: ”See a man without a face” Move like ghosts from place to place. What’s their plan” What’s their plan? Chandrian. Chandrian.” }

ملاحظات :

{

1: اسم السيف

Tinker :2 قديما كان يشمل عدة مهن يتقنها رجل واحد ، و يتجول بالقرى لتقديم خدماته ، حرفي، صانع، سمكري، عطار...

3: "When the hearthfire turns to blue,

What to do? What to do?

Run outside. Run and hide.”

4: “When his eyes are black as crow?

Where to go? Where to go?

Near and far. Here they are."

5: ”See a man without a face”

Move like ghosts from place to place.

What’s their plan” What’s their plan?

Chandrian. Chandrian.”

}

الخشب و الكلمة كان كوت يتصفح كتابًا بتكاسل، محاولًا تجاهل صمت الحانة الخالي، حتى فُتِحَ الباب ودخل غراهام متراجعًا إلى الغرفة. "لقد انتهيت للتو." قال غراهام وهو يتنقل بين الطاولات بحذر مبالغ فيه. "كنت سأحضره الليلة الماضية، لكنني فكرت في 'طبقة أخيرة من الزيت، افركه، واتركه ليجف.' لا أستطيع أن أقول إنني نادم على ما فعلت. يا سيدي وسيدتي، إنه جميل كأي من الأشياء التي صَنعتْها هاتان الأيدي." تشكّل خط صغير بين حاجبي صاحب الحانة. ثم، عند رؤيته للحزمة المسطحة في ذراعي الرجل، أضاء وجهه. "آه! لوحة التثبيت!" ابتسم كوت بتعب، "أعتذر غراهام. لقد مر وقت طويل. كنت قد نسيت تقريبًا." ألقى غراهام نظرة غريبة عليه. "أربعة أشهر ليست طويلة بالنسبة للخشب القادم من آريان(Aryen)، خاصة مع الطرق السيئة كما هي." "أربعة أشهر"، كرر كوت. رأى غراهام و هو يراقبه فأضاف مسرعًا: " ذلك يمكن أن يكون عمرًا إذا كنت تنتظر شيئًا ما." حاول أن يبتسم ليطمئنه، لكن ابتسامته بدت شاحبة. في الواقع، بدا كوت نفسه مريضًا قليلًا. ليس مريضًا تمامًا، لكنه كان فارغًا. شاحبًا. مثل نبتة نُقلت إلى تربة غير مناسبة، ومع نقص شيء حيوي، ثم بدأت تذبل. لاحظ غراهام الفرق. لم تكن إيماءات صاحب الحانة كما كانت من قبل. لم يكن صوته عميقًا كما كان. حتى عينيه لم تكن براقة كما كانت قبل شهر. بدا لونهما أقل إشراقًا. أصبحا أشبه بعشب النهر الباهت، مثل قاع زجاجة خضراء. أما شعره، فقد كان مشرقًا من قبل، مثل لون اللهب. أما الآن، فقد أصبح أحمر فقط. مجرد لون شعر أحمر عادي، حقًا. سحب كوت القماش ونظر تحته. كان الخشب بلون الفحم الداكن مع حبوب (نقاط) سوداء، ثقيلًا كصفيحة حديد. كانت هناك ثلاث أوتاد داكنة فوق كلمة محفورة في الخشب. "حماقة [1]"، قرأ غراهام. "اسم غريب لسيف." أومأ كوت، وكان وجهه خاليًا من التعبير. "كم أدين لك؟" سأل بهدوء. فكر غراهام للحظة. "بعد ما أعطيتني من أجل تغطية تكلفة الخشب..." كان في عينيه لمحة من المكر. "حوالي واحد وثلاثة." دفع كوت تالنتين : "احتفظ بالباقي. إنه خشب صعب العمل معه." "وهذا صحيح"، قال غراهام برضا، "إنه كالحجر تحت المنشار. جرب الإزميل، كأنك تتعامل مع الحديد. ثم، بعد كل الضجيج، لم أستطع أن أُحرقه أو أشوهه." "لاحظت ذلك" قال كوت، مع لمحة من الفضول، وهو يمرر إصبعه على الحرف الداكن الذي صنعته الكلمات في الخشب. "كيف تمكنت من فعل ذلك؟" "حسنًا"، قال غراهام متفاخرًا، "بعد أن ضاع نصف اليوم في محاولاتي، أخذته إلى ورشة الحداد. أنا والصبي تمكنا من تحميصه باستخدام حديد ساخن. استغرقنا أكثر من ساعتين حتى أصبح أسود. و لم يطلق نفسا من الدخان، لكن كانت رائحته مثل الجلد القديم والبرسيم. أغرب شيء. ما نوع الخشب الذي لا يحترق؟" انتظر غراهام لحظة، لكن كوت لم يظهر أي إشارة على أنه قد سمع. "أين ترغب في تعليقه إذًا؟" استفاق كوت بما يكفي لينظر حول الغرفة. "يمكنك ترك ذلك لي. لم أقرر بعد أين أضعه." ترك غراهام مجموعة من المسامير الحديدية وتمنى لصاحب الحانة يومًا سعيدًا. بقي كوت عند البار، يمرر يديه بلا مبالاة على الخشب والكلمة. بعد فترة قصيرة، خرج باست من المطبخ ونظر فوق كتف معلمه. مرت لحظة طويلة من الصمت كما لو كانت تكريمًا للموتى. في النهاية، تحدث باست: "هل لي أن أسأل سؤالًا، ريشي؟" قال كوت: "مجددا، باست"، ثم ابتسم برفق: "سؤال مُزعج؟" "تلك هي الأسئلة الوحيدة التي تستحق العناء عادة." أجابه باست. ظلا يحدقان في الشيء على البار لحظة صمت أخرى، كما لو كانا يحاولان حفظه في الذاكرة، "حماقة". تردد باست للحظة، ففتح فمه، ثم أغلقه بنظرة محبطة، ثم كرر العملية. "قل ما لديك"، قال كوت أخيرًا. "في ماذا كنت تفكر؟" قال باست مع مزيج غريب من الحيرة والقلق. تأخر كوت طويلًا قبل أن يجيب. "أنا أميل إلى التفكير كثيرًا، باست. أكبر نجاحاتي جاءت من قرارات اتخذتها عندما توقفت عن التفكير ببساطة وفعلت ما شعرت أنه صحيح. حتى وإن لم يكن هناك تفسير وجيه و جيد لما فعلته." ابتسم بحنين، "حتى وإن كانت هناك أسباب قوية للغاية تجنبني و تمنعني من فعل ما فعلت." مرر باست يده على جانب وجهه. "إذن أنت تحاول تجنب الشك في نفسك؟" تردد كوت، ثم أضاف بنبرة اعتراف: "يمكنك قول ذلك" "أستطيع قول ذلك بشكل صريح، ريشي"، قال باست بتفاخر و غطرسة. "أما أنت، فستعقد الأمور بلا داعٍ." أومأ كوت كتفيه وأعاد نظره إلى لوحة التثبيت. "لا شيء أمامنا سوى إيجاد مكان لها، على ما أظن." "هنا؟" كان تعبير باست مرعوبًا. ابتسم كوت بابتسامة شريرة، وعادت بعض من حيويته إلى وجهه. "بالطبع"، قال وهو يبدو وكأنه يستمتع بردة فعل باست. نظر بتفكير إلى الجدران وضغط شفتيه: "أين وضعتها أنت، على أي حال؟" "في غرفتي"، اعترف باست، "تحت سريري." أومأ كوت بشرود، وما زال يتفحص الجدران بنظره. "اذهب وأحضرها إذًا." وأشار بإيماءة صغيرة من يده، فانطلق باست مسرعًا، يبدو عليه الامتعاض. كان البار مزينًا بزجاجات براقة، وكان كوت واقفًا على المنضدة التي أصبحت الآن خالية، بين برميلين ضخمين من خشب السنديان، حين عاد باست إلى الغرفة، والغمد الأسود يتأرجح بخفة من إحدى يديه. توقف كوت عن وضع لوحة التثبيت فوق أحد البراميل، وصرخ مستنكرًا: "بحذر يا باست! إنك تحمل سيدة هناك، فأنت لا تتمايل و تهز بفتاة ريفية في رقصة!" تجمد باست في مكانه وجمع الغمد بيديه و أمسكه بكلتيهما كاحترام، ثم مشى ما تبقّى من المسافة نحو البار. دق كوت مسمارين في الحائط، ولوى بعض السلك المعدني، وعلّق لوحة التثبيت بثبات على الجدار. "ناولني إياها، أرجوك." قال بنبرة خافتة فيها شيء غريب. وبكلتا يديه، رفع باست السيف إليه، يبدو للحظة كأنه تابع يقدّم السيف لفارس مكلّل بالدروع اللامعة. لكن لم يكن هناك فارس. لم يكن سوى صاحب نُزل. مجرد رجل يرتدي مريولًا (مئزرا)، يُدعى كوت. أخذه كوت من باست ووقف منتصبًا على المنضدة خلف البار. أخرج السيف دون أي استعراض. كان يلمع بلون رمادي-أبيض باهت تحت ضوء الخريف المتسلل إلى الغرفة. بدا كسيف جديد. لا شروخ عليه، ولا صدأ. لا خدوش لامعة تركض على جانبه الرمادي الكئيب. لكن رغم أنه لم يكن تالفًا أو متضررا، إلا أنه كان قديمًا. ورغم أنه كان بوضوح سيفا، لم يكن ذا شكل مألوف. لأن لا أحد في هذه البلدة كان ليجده مألوفًا. بدا كأن خيميائيًا قام بصهر و تقطير اثني عشر سيفًا، وعندما برد البوتقة، وُجد هذا في القاع: سيفٌ في صورته النقيّة و الخالصة. كان نحيفًا، أنيقًا. مميتًا كحجر حاد تم صقله تحت ماء نهر جارٍ. أمسكه للحظة، و لم ترتجف يده. ثم وضع السيف على لوحة التثبيت. كان المعدن الرمادي-الأبيض يلمع فوق خشب الرواه الداكن . كان المقبض مرئيا، لكنه كان داكنًا بدرجة تجعله بالكاد يُفرّق عن الخشب. أما الكلمة المنقوشة تحته، سوداء على خلفية حالكة، فقد بدت كأنها توبيخ: 'حماقة'. هبط كوت من على المنضدة، ووقف هو وباست جنبًا إلى جنب، يحدّقان بصمت نحو الأعلى. قطع باست الصمت أخيرًا، وقال كما لو أنّه يأسف لصدق عبارته: "إنه ملفت للنظر، حقًّا، ولكن..." توقّف عن الكلام، كأنّ الكلمات المناسبة استعصت عليه، ثم ارتجف. ربت كوت على ظهره بتفاؤل غريب وقال: "لا داعي للقلق من أجلي، لا تنزعج بسببي."، كان يبدو أكثر حيوية الآن، كأنّ الحركة منحت جسده طاقة جديدة كما لو كان منتعشا. ثم قال فجأة، وقد ملأه اقتناع غير متوقع: "أعجبني"، وعلّق الغمد الأسود على أحد أوتاد لوحة التثبيت الخشبية. ثم انشغلا بما يجب إنجازه: زجاجات تُلمَّع وتُعاد إلى أماكنها، غداء يُحضَّر، فوضى الغداء تُنظَّف... سادت أجواء مرِحة لبضع دقائق، ضاجّة و مليئة بطمأنينة الانشغال. تحدث الاثنان عن أمور صغيرة أثناء العمل، ورغم أنهما تحرّكا كثيرًا في أنحاء المكان، بدا واضحًا أنهما يتعمّدان إطالة العمل، كما لو أنهما يخشَيان اللحظة التي ينتهي فيها كل شيء ويعود فيها الصمت ليسود الحجرة من جديد. ثم حدث شيء غريب. فُتح الباب، وانسكب الضجيج إلى الحانة كمدٍّ لطيف. دخل الناس بخطًى نشطة، يتحدّثون ويُسقِطون أمتعتهم. اختاروا الطاولات وألقوا معاطفهم على ظهور الكراسي. رجل يرتدي قميصًا من حلقات معدنية ثقيلة فك حزام سيفه وأسنده إلى الحائط. اثنان أو ثلاثة كانوا يضعون خناجر في أحزمتهم، وأربعة أو خمسة نادوا بطلب الشراب. راقب كوت وباست المشهد للحظة، ثم شرعا بالتحرّك بانسيابية. ابتسم كوت وبدأ في صبّ الشراب، بينما اندفع باست إلى الخارج ليرى إن كانت هناك خيول بحاجة إلى إيواء. وفي غضون عشر دقائق، صار النزل مكانًا مختلفًا. رنّت النقود فوق المنضدة، و وُضِع الجبن والفواكه على صحون، وعلّق قدر نحاسي كبير فوق النار في المطبخ ليغلي بهدوء. حرّك الرجال الطاولات والكراسي ليُناسبوا مجموعة قوامها قرابة اثني عشر شخصًا. وقد تعرّف كوت إليهم بينما دخلوا: رجلان وامرأتان من سائقي العربات، ملامحهم خَشِنة من سنوات سفرهم بالعراء، وابتساماتهم عريضة لأنهم سيقضون ليلة بعيدًا عن الرياح. ثلاثة حرّاس، بعيون صلبة ورائحة الحديد تفوح منهم. سمكريّ ببطن بارزة وابتسامة دائمة تظهر ما تبقّى من أسنانه. وشابّان، أحدهما أشقر رمليّ والآخر أسمر، حسنَي المظهر والحديث، مسافران ذكيان التحقا بهذه الجماعة الكبيرة طلبًا للحماية على الطريق. استمرّت فترة الاستقرار ساعةً أو اثنتين. تفاوضوا على أسعار الغرف، واندلعت جدالات ودّية حول من يتشارك الغرف بينهم. جُلِبت الحاجيات الصغيرة من العربات أو أكياس السرج خاصتهم. طُلِبت الحمّامات وسُخِّن الماء. قُدِّم التبن و الماء للخيول، وقام كوت بملء مصابيح الزيت حتى آخرها. أسرع السمكري[2] العجوز إلى الخارج مستفيدًا من ضوء النهار المتبقي، يقود عربته ذات العجلتين وسط شوارع البلدة. تزاحم الأطفال حوله، يطلبون الحلوى والحكايات وقطع النقود المعدنية الصغيرة. لكن حين تبيّن أنه لن يُوزَّع شيئا، فَقَدَ معظمهم اهتمامهم. كوَّنوا دائرة، ووقف صبي في وسطها، ثم بدأوا التصفيق على إيقاع أنشودة طفولية و شعبية عتيقة، كانت قديمة حتى في زمن أجدادهم: "حين يصبح لهب الموقد أزرقا، فماذا تفعل؟ ماذا تفعل؟ اركض للخارج، واهرب بعيدًا و اختبئ ." [3] كان الصبي في الوسط يضحك محاولًا الهرب من الدائرة، بينما الآخرون يدفعونه للعودة. رنّ صوت الرجل العجوز كجرس: "سمسار! مُصلِح القدور و الأواني! شاحذ السكاكين! كاشف الماء بعصا الصفصاف! قطع الفلّين! أعشاب الأم! أوشحة حريرية من شوارع المدينة! ورق للكتابة! حلويات!" *بخيل و هكر خدمات!* لفت هذا أنظار الأطفال. عادوا يتجمهرون حوله، يصنعون موكبًا صغيرًا وهو يشقّ الطريق مغنيًا أنشودة: "أحزمة من الجلد. فلفل أسود. دانتيل فاخر وريش زاهٍ. السمسار في البلدة الليلة، راحل في الغد. يعمل حتى ضوء المساء. تعالي أيتها الزوجة، تعالي أيتها الابنة، لديّ قماش ناعم وماء الورد." بعد دقائق قليلة، عاد و توقّف أمام نزل وايستون، نصب حجر الشحذ، وبدأ في سنّ السكاكين. بينما بدأ البالغون يتجمهرون حوله، عاد الأطفال إلى لعبتهم. فتاة في وسط الدائرة غطّت عينيها بيد واحدة، تحاول أن تُمسك بمن يفرّون منها، بينما ظلّوا يصفقون وينشدون: "حين تصبح عيناه سوداء كغراب، إلى أين الذهاب؟ إلى أين الذهاب؟ قريبًا وبعيدًا. ها هم هناك." [4] كان السمسار يتعامل مع الجميع واحدًا تلو الآخر، وأحيانًا مع اثنين أو ثلاثة في آن واحد. يستبدل السكاكين الحادة بالبليدة مقابل قطعة نقدية صغيرة، ويبيع مقصّات وإبرًا، قدورًا نحاسية، وقوارير صغيرة تخبّئها الزوجات بسرعة بعد شرائها. يتاجر بأزرار، وحقائب صغيرة من القرفة والملح، ليمون من تينوِي (Tinuë)، شوكولاته من تاربين (Tarbean)، وقرون مصقولة من آيروِه (Aerueh)… وكل هذا بينما يواصل الأطفال الغناء: "هل ترى رجلًا بلا وجه؟ يتنقل كالأشباح من مكان إلى مكان. ما خطّتهم؟ ما خطّتهم؟ تشاندريان. تشاندريان."[5] خمّن كوت أن هؤلاء المسافرين قد قضوا معًا شهرًا تقريبًا، مدة كافية للشعور بالألفة، لكن لا تزال قصيرة لتبدأ الخلافات حول التفاصيل الصغيرة. كانت رائحتهم تفوح بالغبار ورائحة الخيول، استنشقها كوت كأنّها عطر، وأفضل ما في الأمر كان الضجيج. صرير الجلد، ضحكات الرجال، صوت النار تتشقق وتُطقطق، همسات النساء وتغزّلهن، حتى أنّ أحدهم أسقط كرسيًا ليصدر ضجيجا. للمرّة الأولى منذ وقت طويل، لم يكن هناك صمت في نزل وايستون. أو إن وُجِد، فقد كان خافتًا حدّ التلاشي، أو ماهرًا في الاختباء. وكان كوت في وسط كل ذلك، دائم الحركة، كما لو كان يشتغل مثل آلة ضخمة معقدة. يُقدّم الشراب فور طلبه، تارة يتحدث ويصغي بمقدار مدروس، يضحك على نكات الزبناء، يصافح، يبتسم، ويلتقط القطع النقدية على المنضدة وكأنّه بحاجة فعلية لها. ثم، عندما حان وقت الأغاني، وبعد أن غنّى الجميع أغانيهم المفضلة وما زالوا يتوقون للمزيد، قادهم كوت من وراء البار، وهو يصفق للحفاظ على الإيقاع. ومع تألق النار في شعره، غنّى بدوره أغنية "تينكر تانر" (Tinker Tanner)، أكثر من الأبيات التي سمعها الجميع من قبل، ولم يعترض أحد أو يكترث لذلك. مرت الساعات، وصار للغرفة المشتركة جو دافئ ومرح. كان كوت جاثيًا قرب المدفأة، يُزيد النار تأججًا و يغذّيها، حتى سمع صوتًا خلفه. "كڤوث (Kvothe)؟" استدار صاحب النزل مبتسمًا ابتسامة مليئة بالارتباك الطفيف: "سيدي؟" كان أحد المسافرين الأنيقين، وكان يترنح قليلًا: "أنت كڤوث" "كوت، سيدي" أجاب كوت بنبرة متساهلة كما يفعل الأمهات مع أطفالهن، أو كما يفعل صاحب النُزُل مع السكّارى. "كڤوث الدموي." استمر الرجل قائلاً بإصرار مدمن على المعرفة، كما لو كان مفعولًا بحالة سكر. "كنت أظنك مألوفًا، لكن لم أتمكن من تذكّر الأُلفة." ابتسم بفخر وضغط إصبعه على أنفه. "ثم سمعتك تغني، وعرفت أنه كان أنت. سمعتك في إمري (Imre) مرة. بكيتُ بعد ذلك. ما سمعته لم يكن مثل أي شيء سمعته من قبل أو بعد. لقد حطّم قلبي." تداخلت جمل الشاب بشكل غير مرتب وهو يواصل حديثه، لكن وجهه بقي جادًا. "كنت أعرف أنه ما كان ليكون أنت، لكن ظننت أنه أنت. حتى رغم ذلك. لكن من غيرك لديه شعرك؟" هزّ رأسه، محاولًا دون جدوى أن يفرغ ذهنه من سكرته. "رأيت المكان في إمري حيث قتلتَه. عند النافورة. الحجارة المرصوفة كلها... متكسّرة." عبس وركّز في الكلمة، "محطّمة. يقولون إنّ أحدًا لا يستطيع إصلاحها." توقّف الرجل ذا الشعر الأشقر للحظة أخرى. ثم نظر إلى ردّ فعل صاحب النزل بتفاجؤ. كان الرجل ذو الشعر الأحمر مبتسمًا. "هل تقول إنني أبدو مثل كڤوث؟ كڤوث الدموي؟ لطالما اعتقدت ذلك بنفسي. لدي صورة منقوشةله في الخلف. مساعدي يسخر مني من أجل ذلك. هل تستطيع أن تخبره أيضا بما قلته لي؟" رمى كوت قطعة خشب أخيرة على النار ونهض. لكن عندما خطا بعيدًا عن المدفأة، التوى أحد ساقيه وسقط ثقيلًا على الأرض، ليطيح بكُرسي معه. تجمع عدد من المسافرين بسرعة، لكن صاحب الحانة كان قد نهض بالفعل، مشيرًا للناس بالرجوع إلى مقاعدهم. "لا، لا. أنا بخير. آسف لإخافة أحد." على الرغم من ابتسامته، كان واضحًا أنه أصيب. كان وجهه مشدودًا من الألم، وكان يتكئ بثقل على الكرسي بحثًا عن الدعم. قال وهو يبتسم بحسرة: "أخذت سهماً في ركبتي في طريقي عبر 'إلد' (Eld) قبل ثلاث صُيوف. إنها ترجع و تتفجر بين الحين والآخر." ثم عبس وقال بحسرة، "لهذا تركت الحياة الجيدة على الطريق."، مد يده ليلمس ساقه المنحنية بشكل غريب بلطف. أحد المرتزقة تحدث قائلاً: "الأفضل أن تضع ضمادة على ذلك، و إلا فسَيتورّم بشكل فظيع." لمس كوت ساقه مجددًا وأومأ برأسه: "أعتقد أنك حكيم، سيدي"، ثم توجه إلى الرجل ذو الشعر الرملي الذي كان يقف متمايلًا بالقرب من المدفأة، "هل يمكنك مساعدتي في أمر، يا بني؟" أومأ الرجل السكير بغباء. "فقط أغلق المدخنة" أشار كوت إلى المدفأة. "باست، هلا ساعدتني في الصعود إلى الأعلى؟" هرع باست واقترب من كوت، ساحبًا ذراعه حول كتفه. اتكأ عليه كوت مع كل خطوة أثناء صعودهم عبر الباب والصعود على السلالم. "سهم في الساق ؟" سأل باست بصوت خافت. "هل حقًا تشعر بهذا الإحراج لهذه الدرجة من السقوط قليلاً هكذا؟" "الشّكر على أنك ساذج مثلهم" قال كوت بحدة بمجرد أن اختفيا عن الأنظار. ثم بدأ يسب تحت أنفاسه بينما كان يواصل صعود السلالم، و كانت ركبته في الواقع غير مصابة. اتسعت عينا باست، ثم ضاقت. توقف كوت في أعلى السلالم، فرك عينيه وقال: "أحدهم يعرف من أنا." ثم عبس وقال: "بالأحرى، يشتبه" "أيهم؟" سأل باست مع مزيج من القلق والغضب. "ذاك الذي يرتدي القميص الأخضر والشعر الرملي. الأقرب إلي بجانب المدفأة. أعطه شيئًا ليجعله ينام. لقد شرب بالفعل. لن يلاحظ أحد إذا أغشي عليه و نام." فكر باست لوهلة. "نايمن (Nighmane)؟" "مهينكا (Mhenka)." قال كوت. رفع باست حاجبه، لكنه أومأ. استقام كوت وقال: "استمع جيدًا، باست." غمز له باست مرة وأومأ. تحدث كوت بوضوح وحسم: "كنت مرافقًا مرخصًا من مدينة رالين (Ralien). أصبت أثناء دفاعي الناجح عن قافلة. سهم في ركبتي اليمنى. قبل ثلاث سنوات. في الصيف، تاجرٌ سيلديشيٌّ (Cealdish) شكرني وأعطاني المال لبدء حانة. اسمه ديولان (Deolan). كنا مسافرين من بورڤيس (Purvis). اذكرها عابرًا عندما تنزل، هل تذكرتها؟" "أسمعك ثلاث مرات، يا ريشي." رد باست رسميًا. ثم قال كوت: "اذهب" بعد نصف ساعة، عاد باست ومعه وعاء إلى غرفة سيده، مطمئنًا إياه أن الأمور تسير على ما يرام في الأسفل. أومأ كوت وأعطى تعليمات مختصرة بعدم إزعاجه بقية الليل. أغلق باست الباب خلفه، وكان تعبيره يعكس القلق. وقف في أعلى السلالم لفترة طويلة، محاولًا التفكير في شيء يمكنه فعله. من الصعب تحديد ما الذي أزعج باست كثيرًا. لم يبدو على كوت أنه تغير بشكل ملحوظ. إلا ربما أنه تحرك ببطء أكبر، وأي شرارة صغيرة كانت قد أضاءت عينيه في نشاط تلك الليلة، أصبحت أكثر خفوتًا الآن. في الحقيقة، بالكاد كانت مرئية. في الواقع، قد لا تكون موجودة على الإطلاق. جلس كوت أمام النار وأكل طعامه بشكل شبه آلي، كما لو كان يجد فقط مكانًا داخل نفسه ليحفظ فيه الطعام. بعد آخر قضمة، جلس يحدق في الفراغ، غير متذكر لما أكله أو مذاقه حتى. تصدعت النار و توهجت ، مما جعله يرمش وينظر حول الغرفة. نظر إلى يديه، واحدة ملتوية داخل الأخرى، مستريحة في حضنه. بعد لحظة، رفع يديه وبسطهما كما لو كانا يحاولان جمع الدفء بجانب النار. كانت يديه رشيقة، بأصابع طويلة ودقيقة. نظر إليهما بتركيز، كما لو كان يتوقع منهما أن تفعل شيئًا من تلقاء نفسها. ثم خفضهما مجددا إلى حضنه، بيد واحدة تحتضن الأخرى برفق، وعاد لمراقبة النار. بلا تعبير، بلا حركة، جلس حتى لم يبقَ سوى الرماد الرمادي والفحم المتوهج بنار خافتة. بينما كان يخلع ملابسه استعدادًا للنوم، توهجت النار بما تبقى منها. تتبع الضوء الأحمر خطوطًا خفيفة و باهتة عبر جسده، عبر ظهره وذراعيه. كانت جميع الندوب ناعمة وفضية، تخترقه كالبرق، مثل خطوط ذكريات رقيقة. كشف لهيب النار عنها جميعًا لفترة قصيرة، الجروح القديمة والجديدة. كانت جميع الندوب ناعمة وفضية باستثناء واحدة. ومع غروب لهيب النار بشكل نهائي ، لاقه النوم في سريره الفارغ. غادر المسافرون في صباح اليوم التالي. اعتنى باست باحتياجاتهم، موضحًا أن ساق سيده كانت متورمة بشكل سيئ وأنه لم يشعر برغبة في صعود السلالم في وقت مبكر من اليوم. فهم الجميع هذا باستثناء ابن التاجر ذو الشعر الرملي، الذي كان غارقًا في النوم لدرجة أنه لم يفهم شيئًا. تبادل الحراس الابتسامات ودحرجوا عيونهم بينما ألقى السمكريّ خطبة مرتجلة و غير رسمية حول موضوع و فضيلة الاعتدال. كما أوصى باست بعدة علاجات غير مريحة للصداع الناتج عن الشرب. بعد مغادرتهم، اهتم باست بالنُزل، وهو ليس عملاً شاقًا، حيث لم يكن هناك زبائن. قضى معظم وقته في محاولة إيجاد طرق لإشغال نفسه. بعد الظهر بقليل، نزل كوت من السلالم ليجده يحطم الجوز على البار بكتاب سميك ومغلف بالجلد. "صباح الخير، ريشي." "صباح الخير، باست"، رد عليه كوت و أضاف: "هل من أخبار؟" "مرَّ الصبي أوريسون . أراد أن يعرف إذا كنا بحاجة إلى لحم خروف." أومأ كوت، كما لو كان قد كان يتوقع الخبر. "كم طلبت؟". صنع باست وجهًا مكفهرًا و عابسا: "أكره لحم الخروف، ريشي. طعمه مثل القفازات المبللة." رفع كوت كتفيه واتجه نحو الباب: "عندي بعض الأعمال لأقوم بها. هل يمكنك مراقبة الأمور هنا؟" "أنا دائمًا أفعل."رد عليه باست. خارج نُزل وايستون، كان الهواء لا يزال ساكنا وثقيلًا على الطريق الترابي الفارغ الذي يمتد عبر وسط المدينة. كانت السماء غيوما رمادية باهتة، وكأنها كانت ترغب في أن تمطر لكنها لم تتمكن من جمع الطاقة اللازمة لذلك. عبر كوت الشارع إلى الواجهة المفتوحة لورشة الحدادة. كان الحداد قد قص شعره قصيرًا و لحيته كانت كثيفة للغاية. وبينما كان كوت يراقب، كان يدق بعناية مسمارين في طوق شفرة المنجل، مثبتًا إياها بإحكام على مقبض خشبي منحني. "مرحبًا يا كايْلِب (Caleb)" أمال الحداد المنجل ووضعه بجانب الجدار. "ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك، سيد كوت؟" "هل مرَّ الصبي أوريسون على ورشتك أيضًا؟"، أومأ كايلِب. "هل ما زالوا يفقدون الغنم؟" سأل كوت. "في الواقع، بعض الغنم المفقودة ظهرت أخيرًا. و كانت بشكل فظيع، تقريبًا تم تمزيقها." "ذئاب؟" سأل كوت. هز الحداد كتفيه: "ليس الوقت المناسب لهذا، لكن ماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟ دب؟ أعتقد أنهم يبيعون ما لا يستطيعون العناية به بشكل صحيح، بما أنهم قلة في العمل وكل شيء." "قليلون في العمل؟" "اضطروا لطرد العامل الأجير الذي كان معهم بسبب الضرائب، وأخذ ابنهم الأكبر عملة الملك في الصيف الماضي. هو الآن يقاتل المتمردين في مينات (Menat)." "مينيراس (Meneras)"، صحح كوت بلطف. "إذا رأيت ابنهم مرة أخرى، أخبره أنني على استعداد لشراء حوالي ثلاث أنصاف." قال الحداد: "سأفعل ذلك"، وأعطى كوت نظرة مفهومة، "هل هناك شيء آخر؟" تجنب كوت النظر إليه للحظة، بدا عليه الإحساس بالحرج فجأة، "في الواقع، كنت أتساءل إذا كان لديك بعض قضبان الحديد الصلب المتبقية عندك" قال ذلك دون أن يلتقي بعين الحداد. "لا يجب أن يكون شيئًا فاخرًا، فقط حديد عادي سيكفي." ضحك كايلب: "لم أكن أعرف إذا كنت ستتوقف و تمر علي على الإطلاق. جاء كوب والبقية قبل أمس." توجه نحو طاولة العمل ورفع قطعة قماش، "لذا صنعت بعض القطع الزائدة فقط تحسبا لحالة طارئة." أمسك كوت بعصا من الحديد بطول متر و نصف تقريبًا وأخذ يلوح بها بيد واحدة بلا مبالاة: "رجل ماهر و ذكي." "أنا أعرف عملي جيدًا"، قال الحداد بفخر، "هل تحتاج شيئا آخر؟" "في الواقع"، قال كوت وهو يريح قضيب الحديد على كتفه، "هناك شيء آخر. هل لديك مئزر احتياطي وزوج من القفازات المستخدمة في الحدادة؟" "يمكن أن أملكها" قال كايلب بتردد، "لماذا؟" "هناك بقعة من الأشواك خلف النزل." أشار كوت باتجاه وايستون، "أفكر في اقتلاعها حتى أتمكن من زرع حديقة العام المقبل. لكنني لا أحب فكرة فقدان نصف جلدي أثناء القيام بذلك." هز الحداد رأسه وأشار لكوت ليتبعه إلى الجزء الخلفي من الورشة. "لدي مجموعتي القديمة"، قال وهو يبحث عن زوج من القفازات الثقيلة ومئزر جلدي قاسي؛ كان كلاهما محترقًا في بعض الأماكن ومغطاة بالزيت. "ليست جميلة، لكنها ستبقي أسوأ ما يمكن بعيدًا عنك، أظن." "ما قيمتها لديك؟" سأل كوت وهو يمد يده إلى محفظته. هز الحداد رأسه وقال: "قليل كثمنها سيكون كافيًا. لا قيمة لها لي أو للصبي." أعطى كوت الحداد قطعة نقدية، فدسها الحداد في كيس خيش قديم، "هل أنت متأكد أنك تريد القيام بذلك الآن؟" سأله الحداد. "لم تمطر منذ فترة، ستكون الأرض أكثر ليونة بعد ذوبان الثلج في الربيع." هز كوت كتفيه، "جدي كان دائمًا يقول لي إن الخريف هو الوقت المناسب لاقتلاع شيء لا تريده أن يعود ليزعجك" قلّد نبرة و صوت شيخ عجوز. "'الأشياء مليئة بالحياة في أشهر الربيع. في الصيف، تكون قوية جدًا ولن تتركك . الخريف...'" ثم نظر حوله إلى الأوراق المتساقطة من الأشجار، "'الخريف هو الوقت المناسب. في الخريف، كل شيء متعب وجاهز للموت.'" في وقت لاحق من ذلك اليوم، أرسل كوت باست ليلحق بنومه. ثم تحرك بلا هدف حول النزل، يؤدي بعض الأعمال الصغيرة المتبقية من الليلة السابقة. لم يكن هناك زبائن. عندما جاء المساء، أشعل المصابيح وبدأ يتصفح كتابًا بلا اهتمام. كان من المفترض أن يكون الخريف هو أكثر الأوقات ازدحامًا في العام، لكن المسافرين كانوا نادرين في الآونة الأخيرة. كان كوت يعرف يقينا كم سيكون الشتاء طويلا. أغلق النزل مبكرًا، وهو شيء لم يفعله من قبل. لم يكلف نفسه عناء الكنْس. الأرض لم تكن بحاجة لذلك. لم يغسل الطاولات أو البار، فلم يتم استخدام أي منها. لمع زجاجة أو اثنتين، أغلق الباب، وذهب إلى سريره. لم يكن هناك أحد ليلاحظ الفرق. لا أحد سوى باست، الذي راقب حالة سيده، وشعر بالقلق، وكان ينتظر ما سيحدث.

---

ترجمة موقع ملوك الروايات. لا تُلهِكُم القراءة عن اداء الصلوات فى أوقاتها و لا تنسوا نصيبكم من القرآن

أشترك الان من هنا. ولامزيد من الاعلانات
لا تنسى وضع تعليق للمترجم فهذا يساعده على الاستمرار ومواصلة العمل عندما يرى تشجيعًا.

Comment

اترك تعليقاً

Ads Blocker Image Powered by Code Help Pro

تم كشف مانع اعلانات

للتخلص من جميع الاعلانات، نقدم لك موقعنا المدفوع kolnovel.com

اعدادات القارئ

لايعمل مع الوضع اليلي
لتغير كلمة إله الى شيء أخر
إعادة ضبط